بلاغة تظاهرات إبريل في مصر

29 ابريل 2016
+ الخط -
عبّرت لحظات استئناف الثورة في مصر عن حالة اصطفاف شعبي.. سبقت كل عمل مما تسمى قوى نخبوية. صار الاصطفاف حالة فعلية على الأرض، وحالة تنسيق جمعت بين قوى الاشتراكيين الثوريين وحركة السادس من إبريل وشباب التيارات الإسلامية التي سبقت قياداتها في التفاعل مع الأرض وميادين الاحتجاج. مثّل الاصطفاف حالة رعب حقيقية، وكان من جملة استعادة ثورة يناير، أنها "بروفة"، تستلهم روح يناير اصطفافا وثورة، قدرة وحركة.
عدم التفريط في لحظة يناير.. شكلت مظاهرات إبريل عدم التفريط بأي حال في "اللحظة الثورية" الفارقة والكاشفة التي تمثلها الخامس والعشرين من يناير. إن زخم الثورة ومحاولة الثورة المضادة التغطية على الثورة ومحاولة نشلها أو سرقتها، ومحاولات تطويقها وحصارها، وكل الأعمال التي تحاول حرفها عن مسارها، أو وأدها ومنعها القيام بمسيرتها، هو من الأمور المهمة التي تجعل من مهمة الحماية لتلك الثورة مهمة كبرى، ضمن اصطناع شبكات تأمين وأمان لها، سواء على المستوى الفكري والإدراكي، أو على المستوى الحركي، قدرات الثورة يجب تأمينها والحفاظ عليها في الامتداد والانطلاق، إعدادا لحالة إقلاع ثوري جديدة ومستأنفة، تكافئ طبيعة المعارك التي تنبهنا إليها.
استعادة ثورة يناير .. مثلت شرارة مظاهرات إبريل استعادة ثورة يناير مسارها وقيمها وروحها وأهدافها وغاياتها، من دون الوقوف عند أشكالها ورسومها وطاقاتها التي ارتبطت بها، تشكل عمل غاية في الأهمية، خصوصاً أنه جرت في مسار النهر الثوري مياه كثيرة، لا يمكن إنكارها أو التغافل عنها أو القفز عليها، بل وجب التعلم منها، والتعرّف على الدروس والعبر من الخبرة الثورية في مبتدئها، والتعلم من دروس الثورة والثورة المضادة.
الإحياء الثوري.. بلاغة احتجاجات إبريل مثلت امتداد حالة الإحياء الثوري، والسير في مساراتها الإيجابية التي تعظم قدراته. إن الإبقاء على الحالة الثورية والإحياء الثوري هي الشروط الضرورية للتأثير على النظام الانقلابي واستقراره، وينال منه، طالما كانت الثورة مستمرةً بإحداث حالة من الاستنفار النفسي الجماعي، وإحداث القدر اللازم والمطلوب، لتمكين الوعي الجمعي بالحالة الثورية ومتطلباته، ثم تأتي عمليات الإعداد للفعل الثوري الممتد وتأثيره.
الواقع وحال الثورة.. في احتجاجات مستأنفة، تعي الواقع ورفعه على حقيقته، يجعل الحالة الثورية في حالة رصينة واعية، وليست في حال رومانسية انفعالية وجدانية. الحالة الذهنية الثورية إذ تقف على معطيات الواقع واعتباره، فإنها لا تنهزم أمامه أبداً. إنها تحمل أشواق التغيير القادم جذرية لصياغة مستقبل جديد ومديد للوطن، اعتبار الواقع ليس خضوعا له، سواء تعلقت بالثورة المضادة، والتي توّجت بمنظومة انقلابية فاجرة، أو تعلقت بقوى ثورية حقيقية، قادرة على استعادة ثورة يناير، إنها هندسة الواقع الثوري ضمن عملية الإحياء الثوري تأخذ في اعتبارها القدرات المختلفة للطاقات الثورية، رمزية كانت أم حركية.
أنتجت تلك المظاهرات كسر جدار الخوف: الذي شيده نظام الانقلاب بسياسات ترويعه
وتفزيعه، بالقتل والحرق والخنق، بالاختطاف القسري والقتل تحت التعذيب، والاعتقال والمطاردة، وكان ذلك كله مدخل النظام الفاشي الذي اعتمد الحل الأمني، تجريم التظاهر ومنعه. هذا وذاك لم يعد يمنع هؤلاء من احتجاج واسع في مواجهة نظامٍ خان الوطن في مقدراته وثرواته وأرضه، وفرط في كل شيء، ينتفض لكرامته وعزة وطنه ومكانته، تكسير جدار الخوف صار مهمة الثوار الأحرار، يستكملون مسيرة صامدين، ظلوا يتظاهرون ثلاث سنوات، يؤكدون بتظاهرهم أن لا شرعية لانقلابهم وغصبهم، إنها عودة الشارع بقوته وقدرته.
الإقصائيون يمتنعون.. دعوات الفرقة والاستبعاد والإقصاء واجهها الثوار الحقيقيون بالاستنكار الشديد، والاصطفاف على الأرض مثل أبلغ رد وأقوى فعل، بلاغة العمل على الأرض وفصاحة الاصطفاف الفعلي والبيان العملي ألجم صناع الفرقة من البهاليل والمزايدين من كل تيار، تأكيداً من هؤلاء أن مواجهة هذا النظام الانقلابي القمعي لا يأتي إلا بوحدة الفعل، واتحاد الهدف وتنسيق العمل، الصائدون في الماء العكر يمتنعون مع صفاء الاصطفاف الشعبي في التظاهر والاحتجاج.
كان ذلك كله العائد الثوري على أهل الثورة الذي شكل، في حقيقة الأمر، وبالاً على طرف المعادلة المتمثل في النظام الانقلابي. كل ذلك كان كاشفاً عن إفلاس نظامٍ لم يجد إلا إغلاق الطرق والميادين ووسط البلد إغلاقا كاملاً، وهاجموا بعض المظاهرات التي فلتت من الإغلاق، وقاموا بعمليات اعتقال واسعة، زادت على أربعمائة من شباب مصر بشكل ممنهج وبشكل عفوي.
نظام أفلس في حالة رعب، فاستنفر كل قواه، ليؤشر على كذبه الصراح الفاضح، إنه نظام المنقلب المذعور، أدرك قرب نهايته، واحتجاج الشباب المِصْري سيسقطه قريبًا، نحن على طريق تحريك كتلة حرجة ضد نظامٍ، مهما امتلك من أسلحة، كفيل بإسقاطه مهما بلغت قوته واستبداده. نرى الخيانة في أحطّ صورها بسماح النظام الانقلابى للبلطجية ومرتزقة الداخلية بالزي المدني وبعض النساء والبائسين المجهولين والمستأجرين الذين لا يعرفهم أحد، ولا نراهم، إلا في مثل هذه المشاهد الهزلية الانقلابية، والذين نزلوا في حراسة قوات الأمن، ليرفعوا صور الطاغية في الشوارع والميادين رافعين الأعلام السعودية، ليس إلا إفلاساً، ويشكل في حقيقة أمره إدانة فاضحة ومشاهد غبية مستفزة واضحة.
نظام كاذب ادعى، تغريراً وتزويراً، استعداده لترك الحكم، إلا أنه حذّر، في الوقت نفسه، من ذلك الانهيار، في حال قامت ثورة شعبية، وطفق المنقلب يقول لماذا تطالب مجموعة بثورة جديدة؟ هل تريدون أن تضيّعوا هذا البلد؟، وتدمروا الناس والعباد، وأنتم لستم بحاجة لأن تنزلوا؟ يكذب كما يتنفس، ويتناقض في قوله، وفعله يكذب قوله، مصنع متحرك من الكذب.
إن التعرف على الساحات والمساحات بما يحقق الأهداف والغايات الثورية من (رمزية الميادين) و(رمزية ثورة يناير) و(رمزية الاحتجاج والفعل الثوري)، يشكل حقيقة الاستثمار الثوري، في أقصى درجاته وحالاته، لخوض معركة "النفس الطويل" ومتعددة الأوجه والزوايا، وكذا فإن الشرارة التي تتمثل في المشهد الثوري الرائع وقمع الشرطة وهتافات الثوار في 25 أبريل – "ارحل".. "الشعب يريد إسقاط النظام".." يسقط يسقط حكم العسكر".. تؤكد أننا على أعتاب "جمعة غضب" أقرب مما نتصور.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".