''وثائق بنما'' وسلطة الفساد

12 ابريل 2016

رسم تعبيري (تويتر)

+ الخط -
بصرف النظر عن دلالات توقيت تسريب ما بات يعرف 'بـ'وثائق بنما''، اللافت، في هذه القضية، أنها لا تقتصر على دول الجنوب، والتي عادة ما تصنفها تقارير منظمة الشفافية الدولية بأنها الأكثر فساداً، بل كان للغرب، أيضاً، حصته من هذه الفضيحة المدوية التي كشفت عنها وثائق سُربت من شركةٍ للخدمات القانونية في بنما؛ غسيل أموال وتهربٌ ضريبي وحسابات بنكية سرية لشخصياتٍ تنتمي لعالم السياسة والدبلوماسية والمال والأعمال والصناعة وتجارة السلاح والمخدرات والجريمة المنظمة والرياضة والفن، يجمعها حرصها على تهريب وإخفاء ثرواتها السوداء العابرة للحدود الجغرافية والقانونية، مستفيدةً في ذلك مما تتيحه عولمة الاقتصاد ووسائل الاتصال المختلفة من تسهيلات كبيرة.
ما يلفت الانتباه، أيضاً، في هذه القضية، اتساع دائرة الفساد العائلي في مواقع السلطة وصنع القرار، خصوصاً في بعض دول أوروبا، من خلال استفادة أسر وأقارب قادة ووزراء ومسؤولين من تسهيلات ضريبية وعمولات مشبوهة (حالة إيان كاميرون والد رئيس الوزراء البريطاني)، ما يعني أن الفساد، في ظل العولمة، تحوّل إلى سلطةٍ متنفذةٍ، تستبيح كل شيء، ولا تقتصر على مجال دون آخر، فانتصار الرأسمالية، في مواجهتها مع المعسكر الاشتراكي، قبل أكثر من ربع قرن، جعل الاقتصاد يتطور بوتيرة مذهلة. ومع التقدم العلمي والتقني والمعلوماتي وفك الارتباط بين السياسة والإيديولوجيا، صار الساسة وصناع القرار أكثر براغماتيةً في رؤيتهم للقضايا الاقتصادية والاجتماعية وتدبيرها، وهو وضع استفادت منه قوى الفساد التي أضحت أكثر تنظيماً بقربها من مواقع السلطة، وقدرتها على التأثير في السياسات العمومية، وأصبح الفساد في قلب قضايا بناء السلطة والقوة، وتمويل التنظيمات الحزبية والمدنية والدينية والحركات المسلحة، والصراع بين القوى العظمى على مناطق النفوذ، وتوزيع المنافع والامتيازات والعمولات داخل المؤسسات الدولية الكبرى المختلفة (حالة الجامعة الدولية لكرة القدم)، ما يطرح بقوة سؤال الآليات القانونية والمؤسساتية والرقابية ومدى فاعليتها في مكافحة هذه الظاهرة، والحد من نتائجها الوخيمة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية كافة. فبقدر ما يوسع أباطرة المال والاقتصاد أنشطتهم المشبوهة، ويشعبونها نحو السياسة والرياضة والفن والعمل الخيري، بقدر ما تزداد مكافحة الفساد الذي يحوم حولهم صعوبة.

غير أن ذلك لا يمنع من القول إن تبعات هذه القضية وامتداداتها ستختلف، حسب البلدان وطبيعة أنظمتها وأجهزتها القضائية وثقافتها القانونية، ومدى تفاعل الرأي العام مع الحدث. صحيح أن ''وثائق بنما'' وضعت الشخصيات المتورطة في عمليات فسادٍ في خانة واحدة، لكن هذه الشخصيات، في النهاية، تنتمي إلى سياقاتٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ وقانونية متباينة، ففي بعض دول أوروبا، والتي جاءت على ذكرها بعض الوثائق، يُنتظر أن تتحرّك الأجهزة القضائية والرقابية والصحافة والرأي العام لمواجهة تداعيات هذا الزلزال السياسي والاقتصادي والأخلاقي، خصوصا مع تورّط مؤسساتٍ بنكيةٍ وماليةٍ أوروبية كبرى في تهريب الأموال وتبييضها، ما يفترض أن يُقرأ في ضوء ما تمر به المجتمعات الغربية من متغيرات قيميةٍ وثقافية، ترتبط، في بعض جوانبها، بالأزمة العميقة التي تعيشها معظم الديمقراطيات الغربية، فيما يتعلق بمنطلقاتها ومستقبلها. فهناك مؤشرات كثيرة تدفع في اتجاه هذا التحرك، مثل الركود الذي تعرفه بعض الاقتصاديات الأوروبية وفساد النخب السياسية وتراجع منسوب إسهام الطبقة الوسطى في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، لفائدة القوى النيوليبرالية، علماً أن هذه الطبقة كانت دائما الأكثر حيوية ونشاطاً ومشاركة في الحياة السياسية، والتزاماً بدفع الضرائب، وبالتالي، مثلت رقماً بنيوياً في معادلة التوازن الاجتماعي، على امتداد عقود طويلة. لذلك، يبدو من الصعب على المتورطين في ما سرّبته ''وثائق بنما'' الإفلات من المساءلة والمحاسبة.
على الجانب الآخر من العالم، يتفاوت منسوب السلطوية من بلد إلى آخر، وتحمي السلطة والنخب والثقافة السياسية الفسادَ وتبرّره في أحيانٍ كثيرة. ولذلك، يُرجح أن لا تتجاوز هذه القضية تفاعلاتها الآنية في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً في عالمنا العربي، حيث توشك الثورة المضادة المتحالفة مع قوى الفساد، أن تكمل التفافها على الثورات العربية التي كانت مناهضةُ الفساد، بمختلف أشكاله، أحد أبرز مطالبها، هذا من دون أن نغفل أن غياب سلطة القانون والمؤسسات، وفساد القضاء وعدم استقلاليته في معظم بلداننا، وتحكم السلطة في الإعلام العمومي، كلها عواملُ ترجح أن لا يكون لهذه القضية أية تبعات مما يأمله حالمون في أوطاننا.
لا تنحصر دلالة وثائق بنما في الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي يهم الثروات الوطنية للدول، بل تتجاوز ذلك إلى مستقبل شعوب وأجيال بأكملها، آلت قوى الفساد المُعولم إلا أن تصادر أحلامها وتطلعاتها نحو حياة أكثر كرامة وعدلاً وإنصافاً.

دلالات