الفساد.. من الجزائر إلى بغداد

11 ابريل 2016
+ الخط -
ليس مصادفةً أن يبحث العراقيون، اليوم، عن آثار 850 مليار دولار تبخّرت خلال 13 سنة، ذهب نصفها على الأقل إلى جيوب المتنفذين الفاسدين، في الوقت الذي يتساءل فيه الجزائريون عن مصير ما بين 800 إلى ألف و200 مليار دولار، دخلت خزينة الدولة طوال عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 16 عاماً، وهو مبلغ كفيل بتغيير ملامح قارة أفريقيا بالكامل، لكنه عجز عن تحسين ظروف معيشة المواطنين، أو تحريك الاقتصاد الجزائري، قيد أنملة.
وتشير هذه الأرقام الفلكية من آثار الفساد المستشري، في اثنتين من الدول العربية الأساسية، إلى أن هنالك ما هو أخطر بكثير من تنظيم داعش، على استقرار المنطقة العربية، وأن الفساد المالي المغطّى بالفساد السياسي، تجاوز كل الخطوط الحمراء في منطقتنا العربية، ليس فقط في الدول النفطية منها التي فضحها تهاوي أسعار البترول أخيراً، وإنما هي ظاهرة تكاد تكون عامة، وجذراً مشتركاً بين الجميع، وإنْ بنسب متفاوتة.
ولعل "عودة الفاتحين" التي عاد من خلالها وزير الطاقة الجزائري السابق، شكيب خليل، إلى الجزائر قبل أسابيع، بعد سنوات من الاختفاء في الولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي كان في قلب أكبر فضيحة مالية ضربت كبرى الشركات الجزائرية للنفط (سوناطراك)، ما يدلل على أن الفساد ليس مجرد شخوص يتناولها الإعلام، وتتحرّك لأجلها العدالة، بقدر ما هو منظومة قائمة بذاتها، وسط دواليب الدولة المتسمة بالفساد، في صورةٍ هي أشبه بالمنظومة التي هيأها تولي نوري المالكي لقيادة سفينة العراق.
في الحالتين، الجزائرية والعراقية، يكاد يكون الفساد جرثومة فتاكة، لا ينفع معها تعاطي الأدوية أو العقاقير، وقد وصفت المعارضة الجزائرية عودة شكيب خليل، وهو في منظور الرأي العام الجزائري، عنوان شخصي ومتحرك للفساد في فترة حكم بوتفليقة، وإن عجزت العدالة على إثبات ذلك، بأنها تمثل رمزاً لحالة التحلل واللاعقاب التي أصبحت تميز النظام القائم، خصوصاً وأن العدالة الجزائرية هي التي سبق لها وأدانته بالخيانة، وتشكيل جمعية أشرار عابرة للقارات، قبل أن تتراجع العدالة نفسها عن ذلك بعد تغير موازين القوى داخل منظومة الحكم الجزائري ، بسقوط قائد جهاز المخابرات القوي، الجنرال محمد مدين، المعروف بالجنرال توفيق، وسيطرة ما يعرف بمحيط الرئيس بوتفليقة على دواليب الحكم بشكل كامل.
والغريب أن الإعلام الجزائري، المرتبط بمجمله تقريباً بالسلطة القائمة، والذي ساهم بشكل كبير عند شروع جهاز "الدياراس" في كشف ملابسات فضيحتي "سوناطراك1" و"سوناطراك2"، في "شيطنة" الوزير خليل، وما تلا ذلك من إدانة النائب العام الجزائري السابق، بلقاسم زغماتي، الوزير، وفتح العدالة الإيطالية الملف نفسه، وإصدارها اتهاماتٍ بتلقي رشاوى كبيرة من شركتين إيطاليتين، عن طريق مستشاره محمد بجاوي، هو نفسه الإعلام الذي يسوّق الوزير نفسه حالياً باعتباره بطلاً قومياً.. في جوقة تنسجم بالكامل مع ما تقوم به أحزاب الموالاة، وفي مقدمتها حزب جبهة التحرير الوطني الذي طالب زعيمه عمّار سعيداني صراحة، بإعادة الاعتبار للوزير شكيب خليل، إلى درجة أن حديثاً واسعاً يدور حالياً في البلاد عن إمكانية إعادة شكيب خليل إلى الوزارة في التعديل المقبل، أو أن الرجل موعود بمنصب أكبر بكثير.
ولم تكن الاتهامات التي وجهتها محكمة ميلانو الإيطالية لمسؤولين في شركة "إيني سايبام" بتقديم رشاوى بـ 200 مليون دولار، لنافذين في شركة سوناطراك، هي أصل المشكلة، لأن ملياراتٍ كثيرة من خزينة الدولة الجزائرية تبخرت، بطريقة أو بأخرى، عبر فضائح كبرى عديدة عرفتها الجزائر في محطات عديدة، من قبيل "فضيحة القرن" الطريق السيار الذي استهلك أكثر من 13 إلى 17 مليار دولار (1200 كلم)، لتصحو البلاد على طريقٍ للموت السريع، بسبب الحفر والفساد الذي طاوله، وقدّرت بأكثر من خمسة مليارات دولار، وتورطت فيه سبع شركات أجنبية من أوروبا وآسيا وكندا.
ولا يقل ما تم نهبه في الجزائر خلال 16 سنة من حكم الرئيس بوتفليقة عمّا نهب من أموال العراق، خلال 13 سنة الأخيرة، في ظل المحاصصة الطائفية، وحكم المليشيات، أو بالتعبير الأدق، في ظل حكم الديمقراطية التي جاءت عبر الدبابة الأميركية، إلى درجةٍ اعترف فيها السياسي العراقي، مشعان الجبوري، بأن جميع السياسيين في العراق فاسدون من قمة الهرم إلى قاعدته، بمن فيهم هو شخصياً، واصفا الفساد في العراق بأنه فيروس كفيروس إيبولا، بينما اعترف إياد علاوي بوجود كيانات منظمة تدير الفساد، وبأنه لا توجد أي سلطة قادرة على مواجهة الوضع.

هذا الفساد الذي هو واقعيا أخطر من تنظيم داعش الذي يحاربه العالم كله الآن، كان وراء فضيحة سقوط الموصل بيد هذا التنظيم الإرهابي، عندما استيقظ العراقيون على حقيقية الجنود "الفضائيين" الذي يأخذون ما بين 500 إلى 600 مليون دولار شهرياً، من دون أن يكون لهم وجود حقيقي في الميدان. ومع ذلك، يحلو للنظام الجزائري، اليوم، أن يعاود إنتاج الخطاب القديم، بتخويف الجزائريين من خطر "داعش"، كما خوفهم سنة 2011 من خطر حلف الناتو، حتى لا يتحركوا لوضع حد لمنظومة الفساد القائمة.
من المثير حقا أن يقرأ الناس ويستمعون، مثلا، لاتهامات غاية في الخطورة بالسلب والنهب، من دون أن تتحرّك العدالة، للتحقيق في تلك الاتهامات، ويكفي أن بهاء الأعرجي اتهم حسين الشهرستاني بنهب 15 مليار دولار، عندما كان وزيراً للنفط، وهي صورة مكررة للتهم نفسها لوزير النفط الجزائري، شكيب خليل. لكن، من دون أن يكون إزاءها أي موقف حازم، الأمر الذي يفرض هذا التشابه حد التطابق بين الحالتين، العراقية والجزائرية، في طرح أكبر عمليات الفساد في العالم، عبر بوابة شركات النفط في البلدين، وكذا طرح أسماء ثقيلة متهمة هنا وهناك، بداية بالمالكي والشهرستاني وعبد الكريم اللعيبي وضياء جعفر الموسوي وعدي القرشي، وصولا إلى شكيب خليل وعبد المومن خليفة وعمار غول ومحمد مزيان، وغيرهم.
اعترف وزير المالية الجزائرية السابق، عبد اللطيف بن أشنهو، قبل سنوات بأن "البنوك الجزائرية خطر على أمن الدولة". وتم تأكيد المقولة عبر عمليات المزايدة بالفضائح المالية لهذه البنوك، بداية من بنك "الخليفة" إلى البنك التجاري والصناعي إلى البنك الوطني الجزائري، بسبب الفساد والتحويلات غير القانونية لأموال ضخمة، تقودها عصاباتٌ منظمةٌ، يحظى بعضها بالحماية. وبالنتيجة، الجزائر والعراق، باعتبارهما نموذجين صارخين للوضع العربي المتردّي، هما الآن في حالة شبه عجز عن سداد أجور الموظفين، فكيف بمشاريع التنمية الأخرى التي يتم تجميدها بسبب الضائقة المالية التي سببها الفساد أكثر مما سببه انهيار أسعار النفط.
نعم، صارت البنوك والمؤسسات الرسمية، الآن، خطراً على أمن الدولة في البلاد العربية. البنوك خطر على أمن الدولة أكثر من "داعش"، وآليات منح الصفقات خطر على أمن الدولة، وضبط الموازنة التي تظل بلا ضبط خطر على أمن الدولة، وصفقات التسليح السرية خطر على أمن الدولة، بل إن آلية الحكم القائمة، سواء على المحاصصة أو الجهوية أو الزبائنية أو العشائرية هي أخطر من كل التهديدات الارهابية التي تخوّف بها هذه النظم القائمة شعوبها، في سبيل استمرارية معادلة الرضوخ مقابل النهب.
ولن يكون في وسع التيار الصدري في العراق، بقيادة مقتدى الصدر، اقتلاع الفساد، لا من داخل المنطقة الخضراء، ولا من المنطقة الرمادية، كما لا يمكن لاجتماعات المعارضة الجزائرية، سواء في مازافران أو في زرالدة، تغيير ميراث الفساد الضخم هذا، عبر تأخير مواجهة "داعش الخفية"، بدعوى أولوية المواجهة مع داعش المعلنة، تماما كما فشلت ثورات الربيع العربي كلها تقريباً في استئصال هذا السرطان القاتل، بدليل عودة قوى الثورة المضادة عبر منظومة الفساد المسماة "الدولة العميقة"، على غرار تصالح نظام السيسي مع رجل الأعمال المصري الهارب، حسين سالم، بغرض إعادة إنتاج الفساد نفسه ما قبل ثورة يناير، وتعميمها مرة أخرى من المحيط إلى الخليج. ... ويبقى أن الإرهاب الأخطر هو الذي يأتي على ما تبقى من أسس الدولة الحديثة في أوطاننا العربية، لكنه يواجَه بصمت مطبق، في مقابل الضجيج العالي في مواجهة إرهاب "داعش" وأخواته.


133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية