زعيم العصابة

15 مارس 2016
+ الخط -
- هل أنت زعيم عصابة الأرملة السوداء؟
غامت الرؤية في عينيه، وهو يستمع إلى هذا السؤال الذي سقط عليه كحجر من السماء، وهو يجلس مرتجفاً أمام المدّعي العام، في ذلك الصباح الخريفي البارد، وراح يحاول تذكّر متوالية المفارقات الغريبة التي قادته إلى هذا الموقف الصادم.
كل ما كان يذكره، أنه خرج من منزله مطروداً (أو مقذوفاً إنْ تحرّينا الدقة) من زوجته التي اعتادت على مثل هذا الفعل، منذ أصبح عبئاً عليها، بعد أن اكتشفت مبلغ "الهامش" الذي يستوطنه.
والحال أنه كان هامشياً بامتياز، لا يترك في ذاكرة معارفه والمحيطين به أدنى أثرٍ يدفعهم لتذكّره، ولا يعرفه غير عمّال النظافة على الأرصفة، لأنهم أقدر الناس على تمييز النفايات، ولا يحظى بأدنى اهتمامٍ من أحد، لأنه قانعٌ بفتات الحياة، وكل ما كان يخشاه أن تضعه الأقدار يوماً في مواجهةٍ يضطر فيها إلى إبداء رأي، أو اتخاذ موقف.
أما الكارثة الكبرى بالنسبة له فتتمثل بمواجهة الدوائر الحكومية، أو رجال الأمن والشرطة، فبعد عدة إغماءاتٍ أصابته عند هذه المواقف، اتخذ قراراً بتحاشي تلك الدوائر، بدليل أنه لم يعد يجدّد جواز سفره، وهويته الشخصية، وإنْ حدث ورأى رجل شرطة من بعيد، سرعان ما يطأطئ رأسه، ويثبّت عينيه بالأرض، أو ينعطف إلى طرقٍ بديلةٍ، تضاعف من مشواره عشرات المرات، وقد حدث، مرة، أن اضطر للتغيب عن منزله ثلاث ليال بأكملها، بسبب سيارة شرطةٍ، كانت متوقفة في الحيّ الذي يقطنه، لمهمة خاصة.
كان أقصى طموح بالنسبة له أن يلوّح له شخصٌ ما بيده، ولو مرة واحدة في حياته. وقد نجم هذا الشعور الذي يراوده، أحياناً، عن رؤيته موكب الرئيس، ذات يوم، وهو يجوب الشوارع، فبهرته غابة الأيدي التي كانت ترتفع لتحيته، حتى إنه تحسّس يده، وكاد يرفعها، لولا أن خشي أن تلحق به تبعاتٌ قانونيةٌ، جرّاء حركته تلك، غير أن المشهد ظل عالقاً في ذهنه.
أما كيف قادته الحوادث إلى المدّعي العام، وسؤاله إن كان هو زعيم عصابة الأرملة السوداء، فذلك يدخل في باب المعجزات، إذ كانت الأجهزة الأمنية مستنفرةً ذلك الصباح، بعد أن تلقت بلاغاً، من أحد المخبرين، يفيد باشتباهه برؤية زعيم العصابة يمشي بحذرٍ على أحد الأرصفة، ويلتصق بالجدران، فتبعه.
وأفاد المخبر نفسه بأن هذا الرجل لم يرفع عينيه عن الأرض، طوال الوقت، ما يدلل على أنه لا يريد لأحد أن يعرفه، كما أنه كان يتحاشى المرور في أي شارعٍ، يرى فيه رجل شرطة، ما يؤكد أنه زعيم عصابة الأرملة السوداء، من دون ريب.
والواقع أن أجهزة الأمن ضاعفت من بحثها المحموم عن هذا الزعيم، بعد أن طبقت شهرته الآفاق، وبات يحظى بتعاطفٍ من نوعٍ ما من عامة الشعب، نظراً لقدرته على مراوغة الشرطة سنوات عديدة، فيما راحت تُحاك حوله هالة من الأساطير، عن قدراتٍ خارقة، إلى الحد الذي جعله "زعيماً" موازياً للزعيم الأصلي، وهذا ما جعل رئيس الدولة نفسه مهتماً بمسألة القبض عليه.
عموماً، وجد صاحبنا نفسه، في ذلك الصباح، محاطاً بعشرات من رجال الأمن الذين ألقوا القبض عليه برهبة بالغة، فيما كان الناس يتجمعون على وقع النبأ الكبير، وسرعان ما راحوا يلوّحون له، ويصفرون بإعجاب شديد.
حاول صاحبنا أن يتذكّر كل الوجوه التي لوّحت له ذلك الصباح، وهو في سيارة الشرطة التي سارعت لاقتياده إلى النائب العام، ورجّح أنه رأى وجه زوجته، ومديره في العمل، وموظفي الدوائر الحكومية، ورجال الشرطة، غير أنه سرعان ما استيقظ على صوت المدّعي العام يسأله ثانيةً: "أكرّر السؤال: هل أنت زعيم عصابة الأرملة السوداء؟".
رفع صاحبنا رأسه منتشياً، وأجاب من دون تردد: نعم.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.