هيكل.. نقد ثانٍ للأسطورة

01 مارس 2016
+ الخط -
تستكمل هذه المقالة سابقتها، في "العربي الجديد" (27 فبراير/ شباط 2016)، التي ساقت خمس مؤاخذات مركزيةٍ في منجز محمد حسنين هيكل وتصوراته وأدائه، وفيما كتب وأعطى وأضاف، جاءت الأخيرة على الارتجال الكثير، والمستوى شديد العادية والمتسرع، لكثير من تحليلات هيكل بشأن قضايا عربية وعالمية، في إطلالاته التلفزيونية، في "الجزيرة" أولاً، في غير حلقات برنامج "مع هيكل" (حسناً تفعل القناة لو تبث حلقاتٍ منه لم تبثها)، وتالياً مع لميس الحديدي في فضائيةٍ مصرية. وفي السطور التالية، مؤاخذاتٌ ثانية، من المهم التأشير، مجدداً، إلى أنها، هي الأخرى، لا تلغي إعجاباً كبيراً لدى كاتبها بالرجل وملكاته، وبكثير مما كتب وأعطى وأضاف.
أولاً، بقدر ما كانت كتبٌ للأستاذ على قيمةٍ عالية، واتصفت بالحيوية والتوثيقية المؤكدة، واشتملت على اجتهاداتٍ بالغة الأهمية في تركيب الأحداث وتحليلها، منها "القنوات السرية" و"ملفات السويس" و"مدافع آية الله" و"الانفجار"، ولم يعدّ نفسه فيها مؤرخاً، بل قارئ تاريخ، إلاّ أن كتابه الوحيد الذي أصدره، في غضون "استئذانه بالانصراف" في 1993، "مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان"، ليس في مستوى تلك المؤلفات. وكان وصفاً في محله للكتاب، ما سمعه كاتب هذه السطور من الكاتب والسياسي المصري، مصطفى الفقي، إنه كتابٌ "مسلٍّ". ويؤتى، هنا، على هذا الكتاب الذي بدا أنه يستجيب لمتطلبات السوق، بعد ثورة يناير، (صدر في 2012) لأن هيكل، طالما ألح على وجوب إجراء "محاكمة سياسية" لحسني مبارك، بالتوازي مع اشتغال القضاء في التهم التي وجهت إليه، لكن الكتاب لا يحاول شيئاً من هذه المحاكمة، وآثر هيكل فيه بسط مروياتٍ وحكاياتٍ، واحدة منها عن لقائه مع مبارك، بعد شهور من تولي الأخير الرئاسة، وعرض فيه موقعاً في "الحزب الوطني" على هيكل الذي اعتذر عن ذلك.

يرمي هيكل على مبارك "شبهةً جنائية" مفاجئة، تلمح إلى "تورّطه" في قتل الزعيم السوداني، الهادي المهدي، بقنبلةٍ وضعت في سلة مانجو في 1970، إبّان كان اللواء حسني مبارك في بعثةٍ عسكرية حربيةٍ تساعد نظام جعفر نميري ضد خصومٍ له، بإشراف أنور السادات، نائب الرئيس جمال عبد الناصر. مبعث العجب، هنا، أن هيكل خصّص واحدةً من حلقاته في "الجزيرة" لواقعة استنجاد نميري بعبد الناصر ومقتل المهدي (رد على حكاية المانجو سودانيون كثيرون)، لم يأت فيها على أي تورّط من أي نوع للواء حسني مبارك في قتل المهدي، ما يسوّغ سؤالاً عمّا إذا كان الكاتب الشهير امتنع عن رمي مبارك بمثل هذه التهمة الثقيلة، لمّا كان الأخير صاحب سلطةٍ ورئيساً، فيما رماه بالشبهة المذكورة، لمّا صار سجيناً مخلوعاً؟
ثانياً، طوال عقود مبارك الثلاثة في الحكم، ظلّ هيكل يشدّد على احترامه "مقام الرئاسة"، بل قال للميس الحديدي، في أثناء ولاية المجلس العسكري، إنه يعتبر اعتقال مبارك خطأً من المجلس، إذ "حين يُخلع رئيس دولةٍ ما، لا بد أن يُعامل، حتى تثبت إدانته، بطريقةٍ لائقة". وقال ايضاً "كان ينبغي أن يُترك مبارك في أحد بيوته، أو أن تحدّد إقامته"، و"لا يصحّ أن تضع رئيساً في زنزانةٍ في سجن طرة، هناك أصول للتعامل مع الأمور". وكان منتظراً (أو مطلوباً) من هيكل الانسجام مع نفسه، فيطرح شيئاً من "احترام مقام الرئاسة" ومن "أصول التعامل مع الأمور" بشأن الرئيس المعزول محمد مرسي الذي عومل، في زمن رئاسة عبد الفتاح السيسي، بكيفيةٍ منحطّة، وسيقت ضده اتهاماتٌ مضحكة. كان يُؤمل من هيكل أن يقول بشأنها شيئاً، متسقاً مع ما طالب به لمبارك. ومن بالغ التناقض أن الأستاذ، في ديسمبر/ كانون الأول 2012، دعا، في محاورة لميس الحديدي معه، إلى ضرورة أن يُكمل مرسي سنوات ولايته الأربع، وكانت العواصفُ ضد الرجل شديدة، وقال هيكل، موضحاً دعوته هذه، إنه يعطي "حماية مصر من متاهاتٍ سياسية أولويةً على أي اجتهادات أخرى". .. وفيما بعد، كان حماسه لخلع مرسي بلا حدود.
ثالثاً، ثمّة في قصة هيكل مع "الإخوان المسلمين" تناقضٌ وارتجالٌ كثيران. كان الكاتب المعروف يناهض الجماعة، قناعةً منه بأن ناسها لا يفهمون العالم، ولرفضه توظيف الدين في السياسة، عدا عن مواريث ناصرية مقيمة فيه بشأنهم، غير أن تعبيره عن خصومته الفكرية معهم لم يكن حادّاً ومتشنجاً، بل كثيراً ما اتصف بهدوءٍ واتزان. وفي البال أنه قال، قبل سنوات، إنه، في شهور سجنه الثلاثة في 1981، اقترب من زعاماتٍ إخوانيةٍ جيداً. ومعلوم أن قياداتٍ في الجماعة حرصت على دوام الاتصال به، ومن ذلك أن محمد مرسي ومحمد الكتاتني زاراه في بيته الريفي، وأنه دعا عصام العريان إلى الجلسة التي استضاف فيها الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي، في البيت نفسه. يُضاف إلى هذا كله، أنه قال للميس الحديدي إنه، في اجتماع له مع رئيس المجلس العسكري، حسين طنطاوي، عقب الانتخابات النيابية بعد ثورة يناير، دعاه إلى إسناد رئاسة حكومةٍ جديدةٍ إلى محمد مرسي، بصفته رئيس حزب العدالة والحرية، صاحب المرتبة الأولى في نتائج تلك الانتخابات.

ما أن أُسقط حكم "الإخوان"، علت نبرة هيكل ضدهم، وبشكل انفعالي منقوص الحقائق، ومن ذلك إن الحديدي سألته عن رأيه بمطلب "الإخوان" دليلاً على مسؤوليتهم في تفجير مركز أمن المنصورة، في ديسمبر/ كانون الأول 2013، فيستهجن الطلب، ويعتبر الدليل قتل الجماعة القاضي أحمد الخازندار في 1948 (!!). وفي البال أن الحكومة المصرية اتخذت قرارها أن جماعة الإخوان المسلمين إرهابية بعد يومٍ من ذلك التفجير، والذي لم تُثبت تحقيقات الدولة المصرية، حتى اللحظة، مسؤوليةً إخوانية فيه. وقال رئيس تلك الحكومة، حازم الببلاوي، لاحقاً إن ذلك القرار كان سياسياً. أما عن واقعة الاعتداء المشين والمستنكر على منزله الريفي، وحرق وثائق ولوحات وكتب ثمينة فيه، فإن هيكل سارع إلى اتهام "الإخوان" به، وعلى الرغم من مضي أكثر من عامين على الواقعة، عجزت السلطات المصرية عن تحديد الفاعلين، إنْ كانوا "إخواناً" أو غير ذلك. وإذ أفاد الأستاذ بأن القيادييْن في الجماعة، محمد علي بشر وعمرو دراج، زاراه في منزله، وأبلغاه عدم مسؤولية الجماعة عن الاعتداء، واستعدادها، في الوقت نفسه، للتعاون في الوصول إلى الفاعلين، فإنه كان سيصير موضوعياً، لو أثنى على هذا الأمر، وأقنع نفسه بأن الدولة التي ليس في وسعها الكشف عن جناة جريمةٍ مثل هذه مقصّرةٌ في وظيفتها دولةً، وأن القائمين عليها يستحقون المساءلة، لا الحماس لوجودهم في السلطة، لمجرد إبعادهم "الإخوان" عنها.
رابعاً: كان هيكل محقاً في الاعتداد بمصر دوراً وموقعاً ومكانة، وفي إلحاحه على أن تكون صاحبة الصدارة في الفاعلية والتأثير عربياً وإفريقياً، غير أنه ظن أن هذا كله باق على حاله، ولم ينخدش أو ينخرم، وبقي مسكوناً بأن مصر عبد الناصر في فاعليتها تلك باقية. لم يحاول إعادة فحص حقائق العالم العربي ومتغيراته، وحقائق مصر المؤسفة نفسها، ومنها أن مصر في تراجعٍ مريع على غير صعيد، وإنه ليس في وسعها أن تقوم بما كان هيكل يشتهيه، ويفترضُه. ولعل قوله يبعث على الإشفاق والأسى، إنه يتمنى أن يهبط عبد الفتاح السيسي في مطار دمشق، في جهدٍ لحل الأزمة السورية، لأن وراءه مصر وثقلها ودورها ومكانتها. ليت الحال كذلك، ليت مصر قوية، وليت ألقها وفرادتها في الفنون والدبلوماسية والإعلام والزراعة والصناعة، وفي كل شيء، كما كانت في زمن مضى وانقضى، ليت أوهام الأسطورة حقائق حاضرة، عن نفسها وعن مصر. ولكنْ، يشفع للأستاذ هيكل قوله، غير مرةٍ، إنه ليس متصوّراً أن أحداً يملك الحقيقة والحكمة، ولكن "كلنا نحاول".
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.