ذاكرة تونس المسروقة

12 فبراير 2016

سيارة محترقة في انتفاضة تونس في يناير 1984 (Getty)

+ الخط -
تبني الأمم تاريخها، على التّدريج، وتشكّل كينونتها الحضاريّة بتراكم جهود الفرد والجماعة في الإبداع والنّضال على مرّ الزّمان. وذاكرة الأمّة مستودع أخبارها وديوان أيّامها، ومعين وجودها الذي ينهل منه الخلف عن السّلف. ويُعتبر نضال المجتمعات من أجل التّمدن والتّحرير والاستقلال وكسب السّيادة وتقرير المصير، ومن أجل إعلاء حقوق الإنسان، من أنبل أشكال النّضال، التي عرفها الاجتماع الإنساني، وخلّدها التّاريخ البشري. فدفع الظّلم وردّ المستبدّ ومكافحة المستعمر مطالب سنِيّة، تتوق إليها الشّعوب المقهورة، وأفعال عظيمة ينجزها مناضلون تعلّقت هممهم بالشّوق إلى الحرّية، والعدالة، والكرامة التي بذلوا في سبيلها الجهد والمال والوقت، بل بذلوا في سبيلها أنفسهم، وكابدوا الصّعاب في بلوغ المراد، فدقّوا أبواب الحرّية بأياد مضمّخة بالدّماء، وفكّوا أغلال الأسر عن النّاس، وقارعوا المستعمر بنفوس أبيّة، وواجهوا الأنظمة الشموليّة بإرادةٍ لا تلين، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ومنهم من أنصفه التّاريخ، ومنهم من طاوله النّسيان.
والواقع أنّك إذ تفتح أرشيف الذاكرة الوطنية التونسية الحديثة، تتبيّن أنّ كثيرين ممن صنعوا مجد تونس اليوم، وعبّدوا الطّريق إلى الحرّية، وسطّروا السّطور الأولى في سِفْر الثّورة، ودفعوا أعمارهم، بل حياتهم، في سبيل الوطن، قد تناستهم الذّاكرة الجمعيّة، وغيّبهم التّاريخ الرّسمي لما تسمّى دولة الاستقلال. وما فتئت دولة ما بعد الثّورة تراوح مكانها في فتح ملفّات الماضي وتحديد المسؤوليّات، وإنصاف المظلومين، وإعادة الاعتبار إلى مفكّرين ومناضلين غيّبتهم الدّولة القامعة، وأصرّت على تصفيتهم تاريخيّاً، وجدّت في الحرص على محو أيّ أثر لهم في الذّاكرة الوطنيّة، فلم تكتف الدّولة الشمولية، الفردانيّة، الأحاديّة، بتعذيب مخالفيها وتشريدهم وتوزيعهم بين المقاصل والسّجون والمنافي، بل كانت أيضاً حريصة على تشويههم، وتقديم صورة غير واقعيّة لنضالاتهم، فتم تحويل الثّائر إلى مخرّب، والمناضل إلى إرهابيّ، وتمّت شيطنة كلّ معارض للحاكم بأمره، وجرى تهميش "الفلاّڤـة" (المقاومة المسلّحة للاستعمار الفرنسي )، وتقزيم الحقوقيّين، والمدافعين عن الشغّالين على مدى عقود من حكم الحزب الواحد، وتمّ اختزال نضالات شعبٍ بمختلف أطيافه الفكريّة والسياسيّة في شخص زعيم، ادّعى امتلاك الحقيقة، والاستئثار بمكسب التّحرير، وبالوطنيّة والوطن، وقال ذات يوم "تونس هي أنا"، فتمّ إخراج تاريخ الحركة الوطنيّة على النّحو الذي يرضي" فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة"، وفُصّل الماضي والحاضر على مقاسه، وكُتب التاريخ على هواه. ولم تكن حقبة الجنرال، زين العابدين بن علي، الذي حكم بعده سنة 1987 بأفضل حال، فقد واصل مسيرة سلفه، مكرّساً سياسات القمع المنهجي، والظّلم المبرمج، والتّهميش المقصود للجيل الأوّل من المناضلين في الحركة الوطنيّة، وتجاوز ذلك إلى محاصرة خصومه السياسيين وملاحقتهم واعتقالهم وتصفيتهم إعلاميّاً وسياسيّاً وجسديّاً، وسرقة آثار البلد وذاكرته الماديّة والمعنويّة.
وما زال التونسيون، بعد عقود من قيام ما تسمّى دولة الاستقلال، وبعد سنوات من الثورة، لا
يعرفون غير النّزر القليل عن محطّات نضاليّة مهمّة في تاريخ البلاد، بسبب عدم تأمين حقّ النفاذ إلى المعلومة وسياسات التّعتيم، والتّحريف، وقلب الحقائق. وما زالت الدوائر الجامعية المختصّة، والمنابر الثقافيّة، ومراكز البحث، وفرق التأريخ، ومعاهد الحركة الوطنيّة، ووسائل الإعلام وجمعيّات المجتمع المدني مقصّرة في كشف الحقائق، وفي الانكباب على إعادة كتابة تاريخ تونس، واسترجاع الذاكرة الوطنية الجمعية المسروقة، فالتونسيون اليوم لا يعرفون الكثير عن ملاحم الحرّية وتضحيات شهداء الكرامة في ثورة علي بن غذاهم (1864)، وفي معركة الجلاّز (7 نوفمبر/تشرين ثاني 1911) وانتفاضة الوادرنة (15 سبتمبر/أيلول 1916) وثورة 9 أبريل/نيسان 1938، وانتفاضة المرازيق (29 مايو/أيّار 1943) وحرب الفلاّڤـة على المستعمر (من 1952 إلى 1954) واحتجاجات العمّال ( في 26 يناير/كانون ثاني 1978) وانتفاضة الخبز (3 يناير/كانون الثاني 1984) وأحداث الحوض المنجمي (2008)، وثورة الكرامة ( في 14يناير/كانون الثاني 2011). ولا يعلم معظم التونسيين تفاصيل المحاكمات السياسية وملاحقة النظام الحاكم اليوسفيّين والليبراليّين والقوميّين واليساريّين والإسلاميين سنوات عديدة.
هذه النضالات وغيرها أحداث تاريخية خالدة ، أبدعها السياسيون، والنقابيون، والمحتجّون والثائرون في وجه الاستعمار، وفي وجه الدولة الاستبدادية، لكنّها ما زالت رهينة الغموض وطيّ النسيان، وجميعها محطّات بارزة، مميّزة لمسيرة تونس الطويلة في طلب الحرية والعدالة والكرامة، وفي السعي إلى إرساء معالم نظام جمهوري، ودولة ديمقراطية. ويمكن أن تكون تلك الأحداث المهمّة والفاعلون فيها مشاريع بحث جديرة بالتدبّر وإعادة النّظر من أهل الاختصاص، فالحاجة أكيدة، اليوم، إلى إعادة كتابة تاريخ تونس الحديث، حتّى ترفع التّابوهات المحيطة به، وحتّى يستردّ جموع المواطنين تاريخ البلاد المغيّب وذاكرتها المسروقة، وحتّى يُعاد الاعتبار إلى مواطنين ضحّوا بالغالي والنفيس، حتى تتمتّع الأجيال اللاحقة بشيء من الحرّية والكرامة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.