الكنيسة البطرسية ومصر التي لا نعرفها

20 ديسمبر 2016
+ الخط -
"مصر المؤمّنة" في قول أحد شيوخ السودان، والذي نال علماً لدنيّاً وافراً هناك، تُخرج آخر ما في كنانتها من تسامحٍ، وتصوبه نحو أهل المسيحية. أيّاً كان الجاني، فالجرم في تقتيل المتبتلين في دور العبادة لا يفوقه جرمٌ آخر، لكن النظام المصري الذي يتفنن في استثمار المصائب، بدلاً من أن يعلن بشجاعةٍ عن تقصيره في توفير الأمن لمواطنيه من الديانات كافة، يحاول الزجّ بأسماء جهاتٍ خارجية أخرى. وهو بهذا الاتهام الخطير، وغير القائم على أسس موضوعية، وإنّما على عداوة مستفحلة، يحاول نظام عبد الفتاح السيسي تحقيق هدفين. الأول، إشغال الناس عن الداخل المستعر بنيران الغلاء وكبت الحريات، والفشل القائم حتى أعيا الصبر المواطنين؛ صورة أساسية تتخللها هذه الجرائم بين وقتٍ وآخر. الثاني، النيل من دول وجهات ظلّت تحتوي تراشقاً كثيراً يطلقه النظام المصري وإعلامه. ولكن ما يجعله يموت كمداً هو تفريق هذه الجهة المُتهمة بين النظام الزائل والشعب الباقي، على الرغم من أنّه أصبح الشعب المغلوب على أمره من بين الأمم بعد أن كان "الكبير" في كنف "أم الدنيا".
هذه الثورة المخرّبة التي أشعلها أهل الفتنة الدينية في الكنيسة البطرسية، مستغلين طوفان المشاعر الرافضة عنف التنظيمات الإرهابية، تُغذّى بإعلام النظام الحارس نار الفتنة، كلما خبا لهيبها ألقى فيها بعناصر أخرى، لتُبقيها حيةً. فبإدخالهم جهاتٍ معينة في الخلط بين التطرف والمطالبات السياسية السلمية بالحريات، قد يكون خالج شعور المتطرفين الأساسيين ومرتكبي العنف فرصة الانشغال بالحدث للنجاة من تهمةٍ متلبسة. وقبل أن يحلّ الله عقدة لسان وسائل الإعلام التي عجزت عن تسمية الأشياء بمسمياتها، ينبغي العمل على وأد هذه الفتنة في مهدها. فما حدث من قتل وترويع وتخريب لممتلكات الكنيسة، ثم الفاجعة على وجوه أهالي الضحايا، يعكس جرأة مرتكبي الجريمة وصلفهم وروحهم المدمّرة التي أمِنت العقاب، أو حتى أي تصوّر لاستبشاع المأساة، فلم يردعهم شيء عن القيام بها.

لم يكن مفاجئاً بعد أحداث القتل وجرائم التفجيرات المتواترة التي ينفذّها تنظيم داعش، حدوثها في أي مكان. ولكن، يُستهجن أيضاً خلع الاتهام من "داعش" الذي تبناه لإلصاقه بجهةٍ أخرى. مصر التي كانت مفتوحة لأهل الديانات السماوية تضيق الآن بالاختلاف، وتمتلئ بالتعصب ويُشرعن فيها العنف لمحو الآخر المختلف دينياً، ليُضاف إلى سلسلة المختلفين الذي يراهم النظام وأهله هم النشاز وهو الفرد والصمد.
هؤلاء الذين يحتكرون الإسلام والتحدث باسمه لم يقرأوا قوله تعالى: "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "(سورة البقرة الآية 136). كما لم يدركوا أنّ الإسلام ينهي عن كراهية الأديان، والحقد على أتباعها، بل بيّن القرآن الحكمة من هذا الاختلاف في قوله تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ "(سورة يونس الآية 99).
سمح المتورّطون في هذه الأحداث لسموم التحريض أن تسري في دمائهم، وهذه هي الحقيقة القاسية التي صمت كل من نقل الخبر عن قولها. وإزاء هذا الحدث، تغلّف العذر الرسمي الذي هو أقبح من الذنب بنقصان الحماية لدار عبادة يُتوقع استهدافه.
ليس الإسلام حكراً على المسكونين بالأحقاد والثأر والعنصرية، فهو دين غالبية أهل مصر، ولا يجب إدخاله في النزاع السياسي، ليتحول الصراع القائم الآن إلى آخر بين المسلمين والأقباط وأي جهاتٍ أخرى. وإن لم يخش هؤلاء المتشددون من ترويع الأقباط الذين لم يتمكنوا من الهجرة إلى أستراليا وكندا، فراراً منذ أصبحت مصر غير التي يعرفونها، فإنّ عليهم ألا يأمنوا على أسرهم، مثلما صرّح أهالي الضحايا إنّ الهجوم مزّق أسراً بأكملها، وأنّ حياتهم لن تعود إلى سابق عهدها.
آلمني، وأنا من شعب وادي النيل الذي نشأ وترعرع بين ديانات مختلفة، تعبير صديق يمتد أصله على امتداد وادي النيل أيضاً، استجاش أسىً، وهو يعلّق على حادثة تفجير الكنيسة البطرسية. سرد ذكرياته في شبرا، وهو يسلّم على (أبونا)، أي القس، وأصدقائه المسيحيين كلما مرّ بشارع الكنيسة، ويقول إنّ القس كان يلقانا ببشاشة وترحاب. كنا ندخل الكنيسة معهم في الأفراح، ونحضر القداس وقوفاً، وما نقص ذلك من إسلامنا شيئاً. كانت الكنيسة مشرعة الأبواب، لا حارس لها، إلّا رجل عجوز يكاد لا يرى لضعف بصره، لأنّها في مصر المؤمّنة التي تحتضن كل من عليها، ولسان حالها: موسى نبي.. عيسى نبي.. محمد نبي.. وكل من له نبي يصلي عليه. ونحن المسلمون نصلي على كل الأنبياء، ونؤمن بهم، هكذا أمرنا، وهكذا نفعل. تتقطع قلوبنا معك، يا صديقي، ومع أصدقائنا المسيحيين، ونحن نشاهد جحافل من الأمن تحرس الكنائس، وأحداث عنف كثيرة تكون الكنائس مسرحها، هذه فعلاً ليست مصر التي عرفناها، وعشنا فيها، ومشينا في مناكبها.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.