السودان... الشعب يتوعّد

14 ديسمبر 2016
+ الخط -
أيام ويدخل حكم الرئيس عمر البشير في أكبر اختبار له أمام الشعب السوداني. أًصبح يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول الجاري أكثر الأيام إثارة للاهتمام بين السودانيين. حدّدته قطاعات شبابية وأحزاب سياسية ومنظمات مهنية موعداً لاعتصام السودانيين الرافضين استمرار نظام الحكم في منازلهم. وعلى غير العادة، اكتظت مواقع التواصل الاجتماعي السودانية داخل السودان وخارجه بالشعارات والأناشيد والقصائد التي تندّد بنظام الحكم وتدعو صراحةً إلى إنهائه. ثمّة نداءات حماسية صدرت، هذه المرة، عن مجموعاتٍ شبابيةٍ، تدعو إلى التنسيق في ما بينها لإنجاح الاعتصام الجديد، فيما تمجد الشعارات والقصائد الحماسية نتيجة الموجة الأولى من الاعتصام في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والتي استغرقت ثلاثة أيام. وتتوعد بمواجهةٍ حاسمة مع حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) وإنهاء نظام الحكم "بالضربة القاضية". ثمّة شعاراتٌ تدعو المواطنين إلى المشاركة في العصيان العام في 19 ديسمبر "لن يفوتك امتحان، ولن يتم طردك من العمل، ولن تستطيع السلطات سحب ترخيص أعمالك". في إشارةٍ واضحةٍ إلى الملاحقات الأمنية والاعتقالات، وسحب تراخيص مدارس ومحلاتٍ كثيرة شارك أصحابها في الاعتصام الماضي. وتقول الشعارات "إرادة الشعب حين تجتمع لا تستطيع أن تقف أمامها قوةٌ ولا جبروت، معاً لإنجاح عصيان 19 ديسمبر، لنضع نهاية لدولة اللصوص، وسارقي قوت الشعب".
وعلى الرغم من أن الحكومة في الخرطوم، بما صدر عن مسؤوليها من تعليقات وأحاديث، قللت من شأن الاعتصام الأول، ووصفته بالفاشل "مئة بالمئة"، وفق تعليق الرئيس عمر البشير، إلا أن أفعال الحكومة تقول غير ذلك تماماً، فموجة من الاعتقالات المتواصلة طاولت قادة أحزاب سياسية ونشطاء اجتماعيين وأطباء من الأجهزة الأمنية، وموجاتٍ متتاليةٍ من عمليات مصادرة خمس صحف، لتناولها وخوضها في موضوع الاعتصام، وتحديها التوجيهات الحكومية بتجاهله، وموجة من تصريحات "بذيئة مسيئة"، باتت معتادة من وزراء ومسؤولين في الحكومة والحزب الحاكم تجاه قادة الأحزاب، أو المجموعات الشبابية المنظمة والداعية إلى الاعتصام، ويدلل هذا كله على أن الحكم بات يستشعر حقيقة ما يجري بين الأوساط الشعبية في كل السودان.
وأعتقد أن المتابع لمسار الأحداث في السودان عبر العقود الماضية يدرك سريعاً أن الأمر 
يتعدى مجرد عصيان إلى غضبة وبركان شعبي بات يغلي، ويتأهب للانفجار في وجه الحكم. وثمّة شواهد على أن موجات من الغضب الشعبي باتت تتعالى، وهي بالمعايير السودانية والحس السياسي العالي الذي يتمتع به المواطن السوداني، تقول إن الصبر الشعبي فعلاً قد بلغ مداه. ولعل من شواهد هذا الغضب والوعي الشعبي المتصاعد في السودان ما جرى في اللقاء الجماهيري الذي دعا إليه الحزب الحاكم، مع الرئيس عمر البشير في الساحة الخضراء يوم الثالث من ديسمبر الجاري، "لتدشين مشروعات صناعية جديدة". أراد منظمو اللقاء من تنظيم اللقاء الشعبي مع الرئيس، وفي أعقاب الاعتصام الشعبي، أن يأتي رداً عملياً على القوى المعارضة، وبعث رسالة بأن الحزب الحاكم ما يزال يحظى برصيد معتبر. إلا أن ما جرى في الساحة التي يرتادها عادة جمهور كبير، في نهاية الأسبوع، طلباً للراحة والتغيير، كان مصدراً لحرج كبير للحزب الحاكم. ووفق ما نشرته مصادر صحافية، كان تجاهل الحضور من جمهور الساحة المعتاد وجود الرئيس، واختياره النأي عن المنصة، وتجاهل خطاب الرئيس الذي جاء مقتضباً قصيراً، وأمام جمع محدود جداً من الحضور، وهو ما جعل الرئيس عمر البشير، في نهاية الأمر، يغادر المكان، وفي غضون دقائق.
وعلى الرغم من الغياب الواضح للقوى النقابية المنظمة التي أطاحها حكم الجبهة الإسلامية في السودان في سنواته الأولى، وهي التي كانت تقليدياً تمثل المحرّك والوقود للمواجهات الشعبية في كل تجارب الثورات التي أطاحت نظامي إبراهيم عبود عام 1964 وجعفر النميري 1985، إلا أن الحس التنظيمي الشعبي يعلو في كل يوم، والدليل المشاركة غير المسبوقة في الاعتصام الأول. والشواهد على تصاعد المواجهة المفتوحة وغير المألوفة مع الحكم في السودان إضراب الأطباء الناجح الذي تزامن مع موجة الاعتصام الأولى، وإضراب الصيادلة، ثم انضمام المحامين إلى قائمة المحتجين بمسيرة احتجاجية أمام الهيئة القضائية، ثم دخول
الأحزاب المعارضة إلى الساحة، بتسليم عريضةٍ تدعو، صراحةً، إلى إنهاء نظام الحكم. أضف إلى ذلك الاحتجاج المنظم الذي تنفذه التجمعات النوبية في شمال السودان على توجه الحكومة إلى إنشاء سدود جديدة في مناطقهم التي تمثل أرض حضارة النوبة القديمة في السودان. وإذا ما أضفنا إلى كل هذا الزخم الشعبي السلمي، الحروب الدائرة على ثلاث جبهات، والإجراءات الاقتصادية التي عصفت بالجنيه السوداني مقابل الدولار، ما زاد من الغلاء، فإن الوضع في السودان، وبالمصطلح السياسي، بلغ مرحلة الأزمة الشاملة في الحكم. وقد باتت حياة المواطن السوداني نفسه على المحك، وهذا شعور عام بات يمثل عامل تلاق وتنظيم يلف من حوله جموع الشعب المنتمية للأحزاب السياسية المعارضة، وشرائح الشعب عامة، ماضية تجاه هدف واحد، هو إنهاء كابوس الحكم وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، واستعادة الحريات وحقوق المواطنين.
إزاء هذا الوضع المتصاعد، يُتوقع أن تذهب تطورات الوضع في السودان في وجهة المواجهة بين الشعب ومناصري الحزب الحاكم، وحكومة تترنح في قراراتها، وقبضةٍ أمنيةٍ تزيد من ضغوطها على الحريات السياسية، وتشديد الرقابة والحظر الممارس على الصحافة والصحافيين. في المقابل، بات الزخم الشعبي المتصاعد مصدراً للحماس، وإفراز قوى شبابية أكثر جرأةً ووضوحاً في تحديد هدفها وأسلوب عملها وتجاسرها وابتكارها أشكالاً جديدة من الحراك الشعبي المعارض. وفي الوقت نفسه، يبدو أن أسلوب الاعتصام أصبح السلاح الأكثر عقلانية في إسماع الصوت الشعبي العالي والقوي، بعيداً عن الدخول في مواجهة القوى الأمنية المستنفرة، وتجنب الدماء الكثيرة التي سالت في هبة سبتمبر 2013. أضف إلى ذلك أن الأحزاب السياسية المعارضة أصبحت أكثر قرباً من الحراك الشعبي، موجهة عضويتها للمشاركة الفاعلة في اعتصام 19 ديسمبر. بصورة أخرى، إنه حراك يوحي باستعادة التقاليد الشعبية السودانية المجرّبة في مواجهة نظم الحكم.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.