08 نوفمبر 2024
مشكلات الانتقال في "الإخوان المسلمين"
يعد دخول جماعة الإخوان المسلمين في سلسلة من الأزمات مع الدولة المصرية ظاهرة مثيرة للاهتمام، حيث إن تكرار إبعاد الحركة عن المجال العام يلفت الانتباه إلى البحث عن العوامل التي شكلت هذه الظاهرة، وخصوصاً المسائل المرتبطة بمسار تطورها كحركة اجتماعية وسياسية، وانعكاسه على المناخ السياسي في مصر.
وخلال ستة عقود، حدثت أزمات بين الدولة والجماعة، على الرغم من هدوء التوتر في بعض الفترات، وكان من الممكن أن تمهد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 مرحلة مختلفة في علاقة الإخوان المسلمين بالدولة، لكن التداعيات اللاحقة كشفت عن ضعف تكيف الحركة مع التغيرات السياسية السريعة، وهو ما يثير الجدل حول أثر التركيبة الداخلية في ندرة الاستفادة من فترات الانفتاح السياسي ومحدوديتها.
النظرة للأزمات الداخلية
وهناك جدل بأنه منذ 1949 لم تقدم جماعة الإخوان المسلمين مساهمة فكرية تتصدّى للواقع المعاصر، أو تطرح قيادة تجديدية، وكان الاتجاه الغالب، متمثلاً في التأكيد على أولوية البنية التنظيمية والأنشطة الاجتماعية، ولم تحظ أفكار حسن البنا بشروحات، سوى من الاستغراق في النصوص من دون تحويل مراميها ومقاصدها لأطروحات في الإصلاح الإسلامي، فالأدبيات التي ظهرت منذ ثمانينيات القرن الماضي كانت أسيرة النصوص الأولية.
ومن جهة أخرى، تشير خبرة جماعة الإخوان مع الخلافات الداخلية لتماثل سياسات المعالجة، وتشكلت معضلة اتباع النمط الإكراهي في التعامل مع الخلافات التنظيمية، سواء بالفصل أو تجميد عضوية، فيما لم تطرح مساراً لتطوير الفلسفة التنظيمية، واقتصرت على معالجةٍ جزئيةٍ لبعض المواقع التنظيمية، وتفاقم هذا النموذج في الأزمة الداخلية الحالية، ما يعكس اختناق نظام المشاورات أو التفكير وفق معطيات التنوع.
النتيجة العامة للأزمة الداخلية هي أنها كشفت عن التباطؤ أو الامتناع عن التحول نحو المؤسسية، فعلى الرغم من تفكك جهات الشورى وفوات مدتها، لم يكن ثمّة توجه نحو مراجعة الآليات القائمة، بل كان من اللافت وجود توجهات لفرض واقع مثير لمسألة اللامشروعية وإفساح المجال لتهميش أي مقترح لإجراء انتخابات شاملة، فيما تتجه الجماعة إلى تمكين المعينين من الملفات الحيوية. أدى هذا الوضع إلى ظهور حالة من المشاورة الظاهرية، ولعل مرور ست سنوات على ثورة يناير 2011، من دون وضوح التطلعات الإصلاحية لجماعة الإخوان، يكشف عن غياب التفكير المنظم، وشيوع القفزات الحركية والقرارات الغامضة.
مشكلة القيادة
ليس ثمة جدال في أن حركة الإخوان المسلمين تعاني من أزمة القيادة، منذ فترة طويلة،
فالمشكلة لا تتعلق فقط بتباطؤ التداول على المستويات العليا، لكنها تتعلق بنمط من الأداء التقليدي محدود الإنجاز، على الرغم من الفرص التي شهدها العقد الماضي، ولعل هذا ما يفسر جانباً مهماً من محتوى الانقسام الراهن، باعتباره انقساماً بسبب إهدار الفرص السياسية والاجتماعية.
وتتمثل الأبعاد الأخرى لمشكلة القيادة في تصدي شبكة المدراء التنظيميين والمتخصصين في العلوم التطبيقية للقضايا الفكرية، ولعل السمة المشتركة أنهم بعيدون، بمسافة كبيرةٍ، عن العلوم الاجتماعية والتخصصات الشرعية. ولذلك، كان تناول المسائل السياسية من خلفية ميثولوجية، بحيث لم يكن هناك تمييز ما بين "الشمولية" إطاراً معرفياً ومقتضايات الواقع الاجتماعي والحاجة لسياسات تتلاقى ومصلحة المجتمع، ولعل هذا التناول يفسر العودة السريعة للصدام مع الدولة.
وفي الفترة الأخيرة، لم تأخذ المناقشات حول الخيارات العنفية الثورية أو الإصلاحية مدى زمنياً ملموساً، فعلى الرغم من حدة النقاش بشأن هذه المسألة، تراجعت أهمية النقاش بشأنها، وهو ما يرجع لعاملين رئيسيين؛ ضآلة المحتوى الفكري للتغيير السياسي ونقص الخيال لمسار التغيير بعد يناير 2011، وأن التكوين السوسيولوجي للجماعة يتسم بخصائص استاتيكية لا تميل للتغيرات الفجائية والغامضة.
فقد دخلت الجماعة إلى مرحلة ما بعد 11 فبراير/ شباط 2011، من دون وعي بالذاكرة التاريخية، ما أدى إلى تكرار الأخطاء السابقة وبصورة متطابقة، والتغاضي عن قراءة نتائج انتخابات الرئاسة [2012] حيث كشفت عن جانبين مهمين؛ انقسام المجتمع وعدم رغبة الدولة في حدوث تغيّرات جذرية، وكان من اللافت، أن دخول إنتخابات الرئاسة، لم يكن مطروحاً ضمن "السيناريوهات الاستراتيجية"، وهو ما يفسر التعثر السريع، وعدم إدراك مقتضيات إدارة السلطة في ظل حالة الانقسام السياسي.
فالتصرفات التي تلت انتخابات (2012) تمت في إطار من المركزية العشوائية والتداخل الشديد بين الجماعة والسلطة، ولم يتمكّن هذا النمط من الإدارة من اكتشاف الخلل أو الفرص في السياسة المصرية. ولذلك، يتجاهل إرجاع الفشل إلى العوامل الخارجية وجود الإخوان طرفاً رئيسياً في المشهد السياسي. وهنا، تبدو أهمية العوامل الداخلية في تفسير أداء الجماعة منذ 2011.
وهنا، يمكن تفسير الأزمة الممتدة مع الدولة، من وجهة عدم قدرة الإخوان على طرح بدائل متنوّعة للعلاقة مع السلطة، وليس غريباً التطابق بين أداء الإخوان في الفترتين؛ (1952 – 1954) و( 2011 – 2013)، وهو ما يرسّخ حالة نمطية من الصراع السياسي، فعلى الرغم من تفاقم أزمة سلطات الدولة بعد الإعلان الدستوري (21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) لم تبدُ توجهات جدية لإجراء تغيرات كبيرة على تركيبة السلطة أو التفكير في انتخابات رئاسية مبكرة للخروج من دائرة النزاع السياسي.
المنطقية والدوغمائية
وتبدو الطبيعة الدوغمائية في الخطاب السياسي لدى الاعتماد على العقل الغيبي المتناقض مع
المؤسسية. كان من المفترض أن يترافق إعلان عودة الموقع الإعلامي ( 15 أغسطس/آب 2016) مع رؤيةٍ جديدة، لكنه استند لمقولات حدية، عندما أرجع الخلاف الداخلي إلى عدم إدراك طبيعة صراع "الحق والباطل " واستعجال "قطف الثمرة"، وهو تفسير يعكس حيرة حركة الإخوان أمام المشكلات الداخلية، فالخطاب، في طبيعته، استبعادي، ويحمل في طياته توجهاً لفرض الإذعان، لعل هذه المقولات تخفي، في طياتها، غياب النظرة إلى المستقبل، وتجاهل مدى تاريخي يمتد عقوداً.
فالخلاف الداخلي لا تمكن مناقشته فقط من زاوية الابتلاء والتمحيص، بقدر ما أنه يتعلق باكتمال شروط النهضة والتطور، فإن التركيز فقط على العوامل الميتافيزيقية كأسباب للنصر أو الهزيمة، يرتب حالة إذعان للسلطوية الدينية، ويحول دون مراجعة السياسات، ما يحدث مناخاً يطيح الفرص الممكنة للإصلاح.
ويمكن النظر إلى تجنب المحاسبة واحداً من مؤشرات التخلف المؤسسي، من وجهة أنه ليس المشكلة الوحيدة. ولكن، تبدو إشكالية أولوية البيعة والاتنخاب، فمع انتخاب كل المستويات، تبدو فكرة "البيعة" مفهوماً تاريخياً بحاجة إلى إعادة تعريف، وخصوصاً لدى الاحتجاج بها عند إثارة الخلاف بشأن مشروعية السلطة التنظيمية المؤسسة على الانتخاب. تتمثل المعضلة الرئيسية في التسامح مع الفشل، واعتباره أمرا قدريا، فيما التعسف واضح في مراجعة الانضباط التنظيمي، على الرغم من ندرة شرعية الإنجاز وفجوة إدراك التحديات السياسية.
الإخوان بين التطور والتخلف
على الرغم من موجات التحديث التي شهدتها المجتمعات، وتطور الأفكار التنظيمية، ظلت جماعة الإخوان المسلمين تعمل بأنساق تقليدية، ولعل المشكلة المهمة هنا تتمثل في تخلف المقرّرات الثقافية عن مواكبة قضايا التغير الاجتماعي ومتطلباته، وهي جوانب انعكست في تماثل المعالجة التقليدية للأزمات الداخلية على مدى العقود الماضية، بحيث اقتصرت على فصل المخالفين للقيادة في الرأي دون مناقشة محتوى الاختلاف.
يخلق النمط التقليدي إشكالية مدى قدرة الجماعة على إدراك التحديات التي تعرقل انتقال مشروعها السياسي، وبينما تركّز أدبيات الإخوان على التحديات الخارجية، يمكن وصف القرارات التي تتخذها بأنها استنساخ للخبرات السلبية وإعادة إنتاج الأزمات. وهنا، تكشف البيانات الصادرة عن الإخوان، في فترة اندلاع الأزمة الداخلية، عن نمط انفعالي يحول دون إدراك مقومات التغيير أو التحول السياسي، فهي في غالبها عباراتٌ إنشائيةٌ وعاطفيةٌ مستغرقة في الماضي والميثولوجيا.
وعلى مدى الـ 40 عاماً الأخيرة، بدت حركة الإخوان المصرية حركة نصية. وهنا، يمكن تفسير الأزمة الممتدة مع الدولة من وجهة عدم قدرة الإخوان على طرح بدائل متنوعة للعلاقة مع السلطة، وليس غريباً التطابق بين أداء الإخوان في الفترتين؛ (1952 – 1954) و(2011 – 2013)، وهو ما يرسخ حالة نمطية من الصراع السياسي، فعلى الرغم من تفاقم أزمة سلطات الدولة بعد الإعلان الدستوري (21 نوفمبر 2012) استبعد الإخوان إجراء تغيرات كبيرة على تركيبة السلطة أو التفكير في انتخابات رئاسية مبكرة للخروج من دائرة النزاع على السلطة.
هذا ما يدعو إلى البحث عن مصادر أزمة التطور. وهنا، تبدو ملاحظة عامة، تتمثل في تصدي التنظيميين للمسائل الفكرية من دون امتلاكهم مؤهلات لمناقشة المقولات والمنطلقات الفكرية، وندرة خبراتهم في التأليف والبحث في العلوم الاجتماعية. وتبدو هذه المعضلة واضحة في الحالة المصرية، بحيث صارت حركة تطفلية على أفكار البنا، فبغض النظرعن ضحالة الاجتهاد النظري والفكري في التحديات والتغيرات المتسارعة، كان أغلب المساهمات، المحدودة، تعبيراً عن ردود فعل غير متماسكة. هنا تمكن الإشارة إلى مثالين للظواهر النمطية. الأول، أنه عندما صدرت وثيقتا المرأة والتعددية الحزبية 1994، لم تكد تمر سنوات، حتى حدث ارتباك في التعامل مع فكرتي حقوق المرأة والتنوع، ولم يقتصر الأمر في إشكالية ترشحها لرئاسة الدولة، ولاية عامة، وإنما في رفض انتخابها إلى مستويات تنظيمية قيادية. وفي هذا السياق، يتضح المثال الثاني في أنه على الرغم من ارتكاز نظرية الحزب على التعددية والتنوع، فقد شكل ارتباطه العضوي مع الجماعة مدخلاً واسعاً للتوّحد، وتمت ترجمته في قرار حظر انضمام أفراد الإخوان لأحزاب أخرى، بحيث صار الحزب أقرب إلى حالة تعبوية، برزت تجلياتها في توجيه الأفراد للانضمام لـ"الحرية والعدالة" مع نهاية 2012.
بين السياسة والدعوة
ولدى الاقتراب من حركة الإخوان المسلمين، وفق مدخل التطوّر الاجتماعي أو السياسي، تبدو أهمية مناقشة قدرة الجماعة على الانتقال من النطاق الاجتماعي إلى النطاق السياسي. وتشير
الخبرة السياسية لحركة الإخوان إلى أنّ دخولها العمل السياسي أطاح دورها الاجتماعي، وتسبّب في دخولها في أزماتٍ ممتدة مع الدولة، لم تستطع فيها تحقيق الحد الأدنى من مشروعها؛ الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، وظلت أثيرة الجدل حول مفهوم الشمولية.
لا تتعلّق إشكالية النقاش بشأن الترابط بين الدعوي والسياسي بمسألة فكرية بقدر ما يرتبط بمنهاجية التناول، ولعل المدخل الغيبي الدوغمائي، وانعكاساته على الواقع الاجتماعي والسياسي، لا يساعد على بناء مدخل لمناقشة الجوانب الإجرائية للتوّجه الإصلاحي، لكنه لا يميز ما بين المرجعية الفكرية والأولويات المرحلية والمصالح والمفاسد. ولعل المنظور الذي تتبناه حركة الإخوان كان عاملاً رئيسياً في الانحدار الشديد نحو رفض المراجعة والتقييم، واعتبار أنّ كلّ النتائج المترتبة على دخول المجال السياسي حتمية للصراع بين الحق والباطل، وهو ما يعدّ تفسيراً مريحاً، على الرغم من أنه قطع مسار التطور منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، ووضع "الجماعة" في مرمى الحزبية والتعصّب والاستقطاب، كما سبّب ضرراً لدورها الاجتماعي.
وبشكل عام، يمكن القول إنّه، منذ 1949 لم تقدّم جماعة الإخوان المسلمين مساهمة فكرية تتصدى للواقع المعاصر، وكان الاتجاه الغالب، متمثلاً في التأكيد على أولوية البنية التنظيمية والأنشطة الاجتماعية، ولم تحظ أفكار حسن البنا بشروحات، سوى من الاستغراق في النصوص دون تحويل مراميها ومقاصدها لأطروحات في الإصلاح الإسلامي، فالأدبيات التي ظهرت، منذ ثمانينيات القرن الماضي، ظلّت أسيرة النصوص الأولية، ولم تخرج اجتهادات معتبرة في النطاق الاجتماعي أو السياسي.
وهناك صعوبة في وصف جماعة الإخوان حركة تغيير سياسي، بقدر ما أنّها كتلة اجتماعية وظيفية، تساهم في ترسيخ الوضع القائم، فمنذ نشأتها لم تقدم نموذجاً تطورياً في المشاركة السياسية، وبالنظر إلى تجارب الربيع العربي، كانت أغلب تجاربها محدودة التأثير في إصلاح النظم السياسية في مصر والشرق الأوسط، وهي نتائج ترجع، في غالبها، إلى أسباب داخل الحركة تكمن في هيمنة العقل التلفيقي على العقل السياسي.
وخلال ستة عقود، حدثت أزمات بين الدولة والجماعة، على الرغم من هدوء التوتر في بعض الفترات، وكان من الممكن أن تمهد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 مرحلة مختلفة في علاقة الإخوان المسلمين بالدولة، لكن التداعيات اللاحقة كشفت عن ضعف تكيف الحركة مع التغيرات السياسية السريعة، وهو ما يثير الجدل حول أثر التركيبة الداخلية في ندرة الاستفادة من فترات الانفتاح السياسي ومحدوديتها.
النظرة للأزمات الداخلية
وهناك جدل بأنه منذ 1949 لم تقدم جماعة الإخوان المسلمين مساهمة فكرية تتصدّى للواقع المعاصر، أو تطرح قيادة تجديدية، وكان الاتجاه الغالب، متمثلاً في التأكيد على أولوية البنية التنظيمية والأنشطة الاجتماعية، ولم تحظ أفكار حسن البنا بشروحات، سوى من الاستغراق في النصوص من دون تحويل مراميها ومقاصدها لأطروحات في الإصلاح الإسلامي، فالأدبيات التي ظهرت منذ ثمانينيات القرن الماضي كانت أسيرة النصوص الأولية.
ومن جهة أخرى، تشير خبرة جماعة الإخوان مع الخلافات الداخلية لتماثل سياسات المعالجة، وتشكلت معضلة اتباع النمط الإكراهي في التعامل مع الخلافات التنظيمية، سواء بالفصل أو تجميد عضوية، فيما لم تطرح مساراً لتطوير الفلسفة التنظيمية، واقتصرت على معالجةٍ جزئيةٍ لبعض المواقع التنظيمية، وتفاقم هذا النموذج في الأزمة الداخلية الحالية، ما يعكس اختناق نظام المشاورات أو التفكير وفق معطيات التنوع.
النتيجة العامة للأزمة الداخلية هي أنها كشفت عن التباطؤ أو الامتناع عن التحول نحو المؤسسية، فعلى الرغم من تفكك جهات الشورى وفوات مدتها، لم يكن ثمّة توجه نحو مراجعة الآليات القائمة، بل كان من اللافت وجود توجهات لفرض واقع مثير لمسألة اللامشروعية وإفساح المجال لتهميش أي مقترح لإجراء انتخابات شاملة، فيما تتجه الجماعة إلى تمكين المعينين من الملفات الحيوية. أدى هذا الوضع إلى ظهور حالة من المشاورة الظاهرية، ولعل مرور ست سنوات على ثورة يناير 2011، من دون وضوح التطلعات الإصلاحية لجماعة الإخوان، يكشف عن غياب التفكير المنظم، وشيوع القفزات الحركية والقرارات الغامضة.
مشكلة القيادة
ليس ثمة جدال في أن حركة الإخوان المسلمين تعاني من أزمة القيادة، منذ فترة طويلة،
وتتمثل الأبعاد الأخرى لمشكلة القيادة في تصدي شبكة المدراء التنظيميين والمتخصصين في العلوم التطبيقية للقضايا الفكرية، ولعل السمة المشتركة أنهم بعيدون، بمسافة كبيرةٍ، عن العلوم الاجتماعية والتخصصات الشرعية. ولذلك، كان تناول المسائل السياسية من خلفية ميثولوجية، بحيث لم يكن هناك تمييز ما بين "الشمولية" إطاراً معرفياً ومقتضايات الواقع الاجتماعي والحاجة لسياسات تتلاقى ومصلحة المجتمع، ولعل هذا التناول يفسر العودة السريعة للصدام مع الدولة.
وفي الفترة الأخيرة، لم تأخذ المناقشات حول الخيارات العنفية الثورية أو الإصلاحية مدى زمنياً ملموساً، فعلى الرغم من حدة النقاش بشأن هذه المسألة، تراجعت أهمية النقاش بشأنها، وهو ما يرجع لعاملين رئيسيين؛ ضآلة المحتوى الفكري للتغيير السياسي ونقص الخيال لمسار التغيير بعد يناير 2011، وأن التكوين السوسيولوجي للجماعة يتسم بخصائص استاتيكية لا تميل للتغيرات الفجائية والغامضة.
فقد دخلت الجماعة إلى مرحلة ما بعد 11 فبراير/ شباط 2011، من دون وعي بالذاكرة التاريخية، ما أدى إلى تكرار الأخطاء السابقة وبصورة متطابقة، والتغاضي عن قراءة نتائج انتخابات الرئاسة [2012] حيث كشفت عن جانبين مهمين؛ انقسام المجتمع وعدم رغبة الدولة في حدوث تغيّرات جذرية، وكان من اللافت، أن دخول إنتخابات الرئاسة، لم يكن مطروحاً ضمن "السيناريوهات الاستراتيجية"، وهو ما يفسر التعثر السريع، وعدم إدراك مقتضيات إدارة السلطة في ظل حالة الانقسام السياسي.
فالتصرفات التي تلت انتخابات (2012) تمت في إطار من المركزية العشوائية والتداخل الشديد بين الجماعة والسلطة، ولم يتمكّن هذا النمط من الإدارة من اكتشاف الخلل أو الفرص في السياسة المصرية. ولذلك، يتجاهل إرجاع الفشل إلى العوامل الخارجية وجود الإخوان طرفاً رئيسياً في المشهد السياسي. وهنا، تبدو أهمية العوامل الداخلية في تفسير أداء الجماعة منذ 2011.
وهنا، يمكن تفسير الأزمة الممتدة مع الدولة، من وجهة عدم قدرة الإخوان على طرح بدائل متنوّعة للعلاقة مع السلطة، وليس غريباً التطابق بين أداء الإخوان في الفترتين؛ (1952 – 1954) و( 2011 – 2013)، وهو ما يرسّخ حالة نمطية من الصراع السياسي، فعلى الرغم من تفاقم أزمة سلطات الدولة بعد الإعلان الدستوري (21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) لم تبدُ توجهات جدية لإجراء تغيرات كبيرة على تركيبة السلطة أو التفكير في انتخابات رئاسية مبكرة للخروج من دائرة النزاع السياسي.
المنطقية والدوغمائية
وتبدو الطبيعة الدوغمائية في الخطاب السياسي لدى الاعتماد على العقل الغيبي المتناقض مع
فالخلاف الداخلي لا تمكن مناقشته فقط من زاوية الابتلاء والتمحيص، بقدر ما أنه يتعلق باكتمال شروط النهضة والتطور، فإن التركيز فقط على العوامل الميتافيزيقية كأسباب للنصر أو الهزيمة، يرتب حالة إذعان للسلطوية الدينية، ويحول دون مراجعة السياسات، ما يحدث مناخاً يطيح الفرص الممكنة للإصلاح.
ويمكن النظر إلى تجنب المحاسبة واحداً من مؤشرات التخلف المؤسسي، من وجهة أنه ليس المشكلة الوحيدة. ولكن، تبدو إشكالية أولوية البيعة والاتنخاب، فمع انتخاب كل المستويات، تبدو فكرة "البيعة" مفهوماً تاريخياً بحاجة إلى إعادة تعريف، وخصوصاً لدى الاحتجاج بها عند إثارة الخلاف بشأن مشروعية السلطة التنظيمية المؤسسة على الانتخاب. تتمثل المعضلة الرئيسية في التسامح مع الفشل، واعتباره أمرا قدريا، فيما التعسف واضح في مراجعة الانضباط التنظيمي، على الرغم من ندرة شرعية الإنجاز وفجوة إدراك التحديات السياسية.
الإخوان بين التطور والتخلف
على الرغم من موجات التحديث التي شهدتها المجتمعات، وتطور الأفكار التنظيمية، ظلت جماعة الإخوان المسلمين تعمل بأنساق تقليدية، ولعل المشكلة المهمة هنا تتمثل في تخلف المقرّرات الثقافية عن مواكبة قضايا التغير الاجتماعي ومتطلباته، وهي جوانب انعكست في تماثل المعالجة التقليدية للأزمات الداخلية على مدى العقود الماضية، بحيث اقتصرت على فصل المخالفين للقيادة في الرأي دون مناقشة محتوى الاختلاف.
يخلق النمط التقليدي إشكالية مدى قدرة الجماعة على إدراك التحديات التي تعرقل انتقال مشروعها السياسي، وبينما تركّز أدبيات الإخوان على التحديات الخارجية، يمكن وصف القرارات التي تتخذها بأنها استنساخ للخبرات السلبية وإعادة إنتاج الأزمات. وهنا، تكشف البيانات الصادرة عن الإخوان، في فترة اندلاع الأزمة الداخلية، عن نمط انفعالي يحول دون إدراك مقومات التغيير أو التحول السياسي، فهي في غالبها عباراتٌ إنشائيةٌ وعاطفيةٌ مستغرقة في الماضي والميثولوجيا.
وعلى مدى الـ 40 عاماً الأخيرة، بدت حركة الإخوان المصرية حركة نصية. وهنا، يمكن تفسير الأزمة الممتدة مع الدولة من وجهة عدم قدرة الإخوان على طرح بدائل متنوعة للعلاقة مع السلطة، وليس غريباً التطابق بين أداء الإخوان في الفترتين؛ (1952 – 1954) و(2011 – 2013)، وهو ما يرسخ حالة نمطية من الصراع السياسي، فعلى الرغم من تفاقم أزمة سلطات الدولة بعد الإعلان الدستوري (21 نوفمبر 2012) استبعد الإخوان إجراء تغيرات كبيرة على تركيبة السلطة أو التفكير في انتخابات رئاسية مبكرة للخروج من دائرة النزاع على السلطة.
هذا ما يدعو إلى البحث عن مصادر أزمة التطور. وهنا، تبدو ملاحظة عامة، تتمثل في تصدي التنظيميين للمسائل الفكرية من دون امتلاكهم مؤهلات لمناقشة المقولات والمنطلقات الفكرية، وندرة خبراتهم في التأليف والبحث في العلوم الاجتماعية. وتبدو هذه المعضلة واضحة في الحالة المصرية، بحيث صارت حركة تطفلية على أفكار البنا، فبغض النظرعن ضحالة الاجتهاد النظري والفكري في التحديات والتغيرات المتسارعة، كان أغلب المساهمات، المحدودة، تعبيراً عن ردود فعل غير متماسكة. هنا تمكن الإشارة إلى مثالين للظواهر النمطية. الأول، أنه عندما صدرت وثيقتا المرأة والتعددية الحزبية 1994، لم تكد تمر سنوات، حتى حدث ارتباك في التعامل مع فكرتي حقوق المرأة والتنوع، ولم يقتصر الأمر في إشكالية ترشحها لرئاسة الدولة، ولاية عامة، وإنما في رفض انتخابها إلى مستويات تنظيمية قيادية. وفي هذا السياق، يتضح المثال الثاني في أنه على الرغم من ارتكاز نظرية الحزب على التعددية والتنوع، فقد شكل ارتباطه العضوي مع الجماعة مدخلاً واسعاً للتوّحد، وتمت ترجمته في قرار حظر انضمام أفراد الإخوان لأحزاب أخرى، بحيث صار الحزب أقرب إلى حالة تعبوية، برزت تجلياتها في توجيه الأفراد للانضمام لـ"الحرية والعدالة" مع نهاية 2012.
بين السياسة والدعوة
ولدى الاقتراب من حركة الإخوان المسلمين، وفق مدخل التطوّر الاجتماعي أو السياسي، تبدو أهمية مناقشة قدرة الجماعة على الانتقال من النطاق الاجتماعي إلى النطاق السياسي. وتشير
لا تتعلّق إشكالية النقاش بشأن الترابط بين الدعوي والسياسي بمسألة فكرية بقدر ما يرتبط بمنهاجية التناول، ولعل المدخل الغيبي الدوغمائي، وانعكاساته على الواقع الاجتماعي والسياسي، لا يساعد على بناء مدخل لمناقشة الجوانب الإجرائية للتوّجه الإصلاحي، لكنه لا يميز ما بين المرجعية الفكرية والأولويات المرحلية والمصالح والمفاسد. ولعل المنظور الذي تتبناه حركة الإخوان كان عاملاً رئيسياً في الانحدار الشديد نحو رفض المراجعة والتقييم، واعتبار أنّ كلّ النتائج المترتبة على دخول المجال السياسي حتمية للصراع بين الحق والباطل، وهو ما يعدّ تفسيراً مريحاً، على الرغم من أنه قطع مسار التطور منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، ووضع "الجماعة" في مرمى الحزبية والتعصّب والاستقطاب، كما سبّب ضرراً لدورها الاجتماعي.
وبشكل عام، يمكن القول إنّه، منذ 1949 لم تقدّم جماعة الإخوان المسلمين مساهمة فكرية تتصدى للواقع المعاصر، وكان الاتجاه الغالب، متمثلاً في التأكيد على أولوية البنية التنظيمية والأنشطة الاجتماعية، ولم تحظ أفكار حسن البنا بشروحات، سوى من الاستغراق في النصوص دون تحويل مراميها ومقاصدها لأطروحات في الإصلاح الإسلامي، فالأدبيات التي ظهرت، منذ ثمانينيات القرن الماضي، ظلّت أسيرة النصوص الأولية، ولم تخرج اجتهادات معتبرة في النطاق الاجتماعي أو السياسي.
وهناك صعوبة في وصف جماعة الإخوان حركة تغيير سياسي، بقدر ما أنّها كتلة اجتماعية وظيفية، تساهم في ترسيخ الوضع القائم، فمنذ نشأتها لم تقدم نموذجاً تطورياً في المشاركة السياسية، وبالنظر إلى تجارب الربيع العربي، كانت أغلب تجاربها محدودة التأثير في إصلاح النظم السياسية في مصر والشرق الأوسط، وهي نتائج ترجع، في غالبها، إلى أسباب داخل الحركة تكمن في هيمنة العقل التلفيقي على العقل السياسي.