مختبرات بعثية

09 أكتوبر 2016

تحولت مراكز ثقافية في سورية إلى معتقلات (فيسبوك)

+ الخط -
أطلقت وزارة الثقافة السورية، عام 2004، مشروع بناء مركز الميدان الثقافي، وسط دمشق، الحي الذي سعى حافظ الأسد إلى تقطيع أوصاله عن بعضها ببناء جسر للسيارات، اسمه المتحلق الجنوبي (20 سنة مدة التنفيذ)، ليفصل حارته عن مركز المدينة، إضافة إلى حصر الأسواق الميدانية الشهيرة في شوارع معدودة، حتى تسهل السيطرة عليه.
بنى حافظ الأسد المفارز الأمنية السرية بين الحارات، وشعبة تجنيد الميدان العسكرية، إضافة إلى المفارز المنتشرة على هيئة بسطاتٍ وعربات جرّ على أربعة عجلات متحركة أو ثابتة، لبيع الفول النابت والبليلة والجرابات والخبز والبزر.. إلخ، بضائع تدل على طبيعة مالية فقيرة، بينما تحمل في أدراج أصحابها دراسات استخبارية عميقة لكل "مواطن" لا يذكر نِعم القائد.
الخير هنا "ثقافي" بامتياز، فقد انتهى مشروع تعمير ذاك المركز نهاية عام 2010، لكنه لم يفتتح حدثاً استثنائياً منذ انطلاقته، إنما تحوّل إلى مركز سري للاعتقالات إبّان انطلاق الاحتجاجات في سورية في مارس/ آذار عام 2011. وظنّ أهل المنطقة أن البناء مخصص للفرقة الحزبية، لأن قوات منظمة الشبيبة الرديفة لحزب البعث كانت تظهر وهي ترتدي سترات زرقاء، عليها شعار "المنظمة"، وبأيديهم صور بشار الأسد. تجتمع تلك "الأشبال" صباحاً في المركز، ثم تتوزّع على أماكن المظاهرات، وفي ستراتهم قضبان الحديد والعصي، لدحر المتظاهرين الخارجين للتو من الجوامع وضربهم.
هكذا كانت الوظيفة الحقيقية لنموذج معماري معني بالثقافة فقط! لم يكن هو، وإلى جانبه أكثر من 26 مركزاً "ثقافياً" في العاصمة، أدوات تنوير ومظهر لعمل مؤسساتي، بقدر ما جنّدها البعثيون لاجتماعاتهم واحتفالاتهم بأعياد "التصحيح"، عبر ابتكار أمسياتٍ شعريةٍ وفنيةٍ ودبكات ومسرحيات، تتغنى بمفاتن التجربة "المجيدة" التي استولى فيها حافظ على الحكم في البلاد منذ أربعين سنة.
هكذا سوف يكرّس القيم الأخلاقية والولاءات في توزيع المهام القيادية لوزارة الثقافة، وما حولها من مديريات تابعة، لتأتي التأشيرات النهائية من شعب الحزب بملفات كل "الرفاق" المرشحين لإدارة تلك المديريات. ولكن، كيف يمكن لمركز ثقافي وسط حي ضخم، مثل الميدان، أن تستورد له إدارة جاهزة، كما يحدث في مراكز توزيع الغاز والسكر والأرز والمؤسسات الاستهلاكية للبندورة والبطيخ والبيض والفجل!؟
إنها الخلطة البعثية في تكوين المضمون الثقافي لأي تجربة رسمية، فالمدير المرشح لا يهم لو كان يعتقد أن محمد الماغوط ملاكم سوري، أو أن سليمان العيسى مؤلف أغان حزبية. الأهم هنا أن يكون ملفه "النضالي" خالياً من أي غياب عن اجتماع حزبي، أو خمول تفاعلي في مسيرة عفوية، أو قلة تصفيق لمناسبات تجديد البيعة للأب القائد. ثم أن يكون مصدر ثقة لدى الجهات الأمنية، بحيث يلخص كل ما سيحدث على منبر المركز قبل أوانه. بعد ذلك، يرسل أربع نسخ للإدارات المخابراتية (أمن الدولة) (الأمن العسكري) (أمن الجوية) (الأمن السياسي) حتى "لا يتسمّم" الإخوة المواطنون بوهن نفسية الأمة! ويبقى السؤال المحيّر: ما الذي تريده (الجويّة) بأمسية شعرية أو محاضرة عن الكوميديا السوداء في زمن الدم؟
إنها التوابل البعثية، تشرف على ورش تزيين مخيلات الأطفال "بمعجزات البعث"، وفكر (باني سورية الحديثة) ومبادئه.. هذه الجملة التي نخرت أعصابنا في أحد الأيام، بعد أن خرجنا من مركز المزّة الثقافي، كنا نستمع لأمسيةٍ قصصيةٍ سخر فيها الكاتب من فكرة الأبد بأسلوب أجبر، من خلاله، مدير المركز على فصل الكهرباء عن القاعة، ثم الاعتذار من العشرات القليلة التي حضرت، مبرّراً ذلك بأن "عطلاً سوف يؤجل الأمسية". بينما كنا نغادر، كان مدير المركز يعطي كاتب القصة ظرفاً، على ما يبدو مكافأة مالية، وهو يقول له ممازحاً: "هالهدية من باني سورية الحديثة.. بدنا قصص وطنية المرة الجاية".
لا أدري إن كان ثمة (مرة جاية) لذاك الكاتب المسكين، لكن كل شيء في سورية يمكن أن يحدث، من تحوّل المراكز الثقافية إلى ثكنات اعتقال وتشبيح، كما في مركز الميدان.. أو إلى مرصد لقنص المدنيين، كما حدث صيف عام 2012 في مركز مخيم اليرموك الثقافي، قبل أن تشتعل المنطقة هناك نهاية العام نفسه. أمّا مركز كفرسوسة الثقافي الذي يحيط بمربعاتٍ أمنية، وجدت فيه عناصر لحواجز النظام المجاورة مكاناً جيداً للنوم وممارسة (المتّة) والواتساب. وأحياناً يتعطل دوام المركز أياماً بسبب ازدحامه بنزلاء من فئة (حماة الديار)، لا منازل لهم في العاصمة.
دلالات