الانتخابات المغربية وإعادة الحقل السياسي

03 أكتوبر 2016

بنكيران في مهرجان انتخابي لحزب العدالة والتنمية بالرباط (25/9/2016/الأناضول)

+ الخط -
يشكّل الانفتاح السياسي النسبي، والمتحكَّم فيه، أحد العناوين الرئيسية لتركيبة النظام المغربي واشتغاله، فوجودُ مشروعيةٍ تقليديةٍ تنبني على الدين والتقاليد المخزنية لا يسمح، على الأقل في الوقت الراهن، بالدفع بهذا الانفتاح في اتجاه تحوّل ديمقراطي حقيقي، يقطع مع الاستبداد والسلطوية. لكن، في أحيانٍ كثيرة، تُربك المتغيرات الدولية والإقليمية الطارئة حسابات الفاعلين، وتدفعهم صوب خياراتٍ لم تكن في الحسبان. وهذا ما حصل، في الحالة المغربية، حين وجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة حراكٍ شعبيٍّ واسع، استطاع أن يرفع سقف مطالبه السياسية والاجتماعية في لحظة تاريخية منفلتة، قبل خمسة أعوام.
هكذا، وجدت السلطة والنخب نفسها مضطرّةً لتوسيع هوامش هذا الانفتاح، حتى تمرّ العاصفة، من خلال إصلاح دستوري، اعْتُبر الأكثر تقدماً في تاريخ الاستحقاقات الدستورية المغربية، وانتخابات تشريعية قادت قطاعاً من الإسلام السياسي المعتدل إلى الحكومة، في تطبيعٍ لم يكن متوقعاً مع السلطة والدوائر المحيطة بها. لكن هذه السلطة ظلت حريصةً على التحكّم في التوازنات الحزبية والسياسية التي أفرزها هذا المنعطف، خصوصاً في ما له شأن بالاختصاصات الدينية والاستراتيجية الكبرى للملكية. انطلاقاً من ذلك، يكتسي اقتراع يوم الجمعة المقبل أهميةً دالة للفاعلين، على اختلاف مواقعهم ورهاناتهم. فبالنسبة للسلطة والقوى المرتبطة بها، يمثل محطةً لإعادة إنتاج الحقل السياسي وفق استراتيجيتها، بما يؤَمِّن، من ناحية، هيمنتها على الحقل الديني، باعتباره ''حقلَ سلطة''، محفوظاً للملك بقوة النص الدستوري، ويحدّ، من ناحيةٍ أخرى، من إمكانات تأويل ديمقراطي لهذا الدستور، في أفق فرض تأويلٍ رئاسي وتنفيذي، يستقي مبرّره من المكانة المركزية التي تحظى بها الملكية في النسق الثقافي والاجتماعي والسياسي.
نتساءل، هنا، هل يربك فوز حزب العدالة والتنمية استراتيجية السلطة هاته، أم أن ذلك لن يمثل غير حلقةٍ إضافية في مسار ترويض الحزب، وإدماجه أكثر في هياكل الدولة وبنياتها، بحيث يصبح أكثر انقياداً لآلية التوافق التي تؤطّرها، وتشرف عليها الملكية؟ هل يتحوّل الحزب إلى قوةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ مُكلِّفة بالنسبة للالتزامات الدولية للسلطة، أم أن فوزه سيجعل المغرب
يقترب أكثر مما يعرف بالديمقراطيات الانتخابية؟ هذه الأسئلة، وغيرها، تجعل اقتراع يوم الجمعة مفصلياً إلى حد ما، ليس بسبب ما قد يقدمه من إمكانات التطور الديمقراطي، وتحديث الحقل السياسي. ولكن، بسبب مآلاته المحتملة داخل هذا الحقل، فالسلطة لا تبدو مرحبةً بفوز آخر للإسلاميين، يعيدهم إلى قيادة الحكومة، لأن ذلك سيؤكد، بالملموس، أن هناك قوة سياسية وتمثيلية وازنة داخل المجتمع، وهو ما يبدو مزعجاً لها.
على صعيد آخر، وعلى الرغم من الصعوبة المنهجية التي تطرحها سوسيولوجيا الانتخابات في مجتمعٍ يعرف حضوراً قوياً للبنيات التقليدية، سواء في ما يتعلق ببرامج الأحزاب وأداء نخبها وطريقة إدارتها الحملة الانتخابية، أو في ما يتعلق بسلوك الكتلة الناخبة، على الرغم من ذلك كله، تذهب أغلب التكهنات بشأن هذا الاقتراع في اتجاه سيناريوهين. أولهما فوز ''العدالة والتنمية''، وفي هذه الحالة، لن تخرج الكتلة الناخبة التي ستمنح أصواتها للإسلاميين عن فئتين؛ فئة ستصوّت لهم لاعتبارات إيديولوجية، وأخرى (الأغلبية الصامتة على الأرجح!) ستصوّت لهم تعاطفاً معهم، على الرغم من اختلافها الفكري معهم. وفي هذا، رسالةٌ دالةٌ لمواقع وقوى ما بات يعرف، في الأدبيات السياسية المغربية، بـ ''التحكّم''، خصوصاً بعد مسيرة يوم 18 سبتمبر/ أيلول الماضي في الدار البيضاء، وقد رفعت شعار ''لا لأخونة الدولة وأسلمة المجتمع''، وهي المسيرة التي يُرجح أن مواقع في السلطة المتنفذة كانت وراء تنظيمها، في محاولةٍ لإرباك الإسلاميين، وتأليب الرأي العام ضدهم في توقيتٍ جد حرج. ويتمثل السيناريو الثاني في تصدّر حزب 'الأصالة والمعاصرة نتائج الانتخابات، مستفيداً من قربه من السلطة، وتغلغله في بعض مؤسساتها المؤثرة، فضلا عن شبكة ارتباطاتٍ واسعة بأعيان البوادي والأرياف. وسيعيد هذا الفوز إلى الواجهة إشكالية المشاركة السياسية، من خلال استمرار نزوع السلطة نحو السيطرة على الكتلة الناخبة، والحدّ من تمدّدها في الحواضر الكبرى التي تعرف تزايداً لنفوذ الإسلاميين داخل الطبقة الوسطى، وعملها، في المقابل، على توسيع هذه الكتلة في المناطق القروية التي تعرف تفشّي الفقر والأمية، وتدني مستوى التعليم، وارتفاع منسوب النزعات القبلية والجهوية، ما يجعل التأثير على الناخبين، وتوجيه سلوكهم الانتخابي، أمراً في غاية السهولة.
على الرغم من الرهانات والتطلعات المتباينة للفاعلين، إلا أن هناك معطىً لا ينبغي تجاهل أهميته، هو انشغال السلطة بتعزيز صورة المغرب نموذجاً استثنائياً في المنطقة، استطاع أن يدير، بنجاح، زلزال الربيع العربي، ويعيد إنتاج الحقل السياسي بما حقّق له، نسبياً، معادلة ''الإصلاح في ظل الاستقرار''، ومن جهة أخرى أن يقدّم توليفة سياسية ومؤسساتية، تؤالف بين التقليد والتحديث، ما خَوَّله ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الأهلي والاجتماعي، وطمأنة الدول والمؤسسات المالية الدولية الكبرى، غير أن ذلك ستكون له كلفة، لا بد من دفعها بشكل أو بآخر، إذ ستجد السلطة نفسها أمام تحدياتٍ بالغةٍ، بشأن مأسسة المعادلة سالفة الذكر، عبْرَ وضع الأوراش الإصلاحية، التي تنفرد بتدبيرها وإدارتها، ضمن سياساتٍ عمومية واضحة ومتسقة وقابلة للتقييم والمحاسبة.