المغرب.. خطوط حمراء متحركة

14 يناير 2016

احتجاج أمام البرلمان بالرباط ضد الاعتداء على تظاهرة للمعلمين(10يناير/2016/Getty)

+ الخط -
يعيش الرأي العام المغربي، منذ أيام، على وقع ما أصبحت تعرف بمجزرة الخميس الأسود، التي شهدت تدخلاً عنيفاً من قوات الأمن، لتفريق مسيرات سلمية نظمها الأساتذة المتدربون في عدد من المدن، ضد مرسوميْن حكوميين، يقضيان بفصل التكوين عن التوظيف وخفض المنح المخصصة لهؤلاء إلى النصف. أوقع التدخل إصاباتٍ بين صفوفهم، وأثار غضب (واستنكار) الشارع والمنظمات النقابية والحقوقية، خصوصاً بعد أن تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد صادمة للمحتجين، وهم يعَنفون بطريقةٍ أعادت إلى الأذهان ما كان يعتقد كثيرون في المغرب أنه أصبح من الماضي.
يطرح ما حدث أسئلة عديدة، تتجاوز تصلب الحكومة التي يقودها الإسلاميون حيال ملف الأساتذة المتدربين، ورفضها التراجع عن تطبيق المرسوميْن، كما تتجاوز الأزمة البنيوية للنظام التربوي المغربي الذي يقف، منذ مدة، على حافة الهاوية؛ أسئلة تضعنا، في الواقع، إزاء حقل سياسي مغربي، يتميز بقدرته اللافتة والنوعية على تجاوز أزماته وتوتراته، بطريقة تتيح له دائماً إعادة إنتاج بنياته وهياكله وآليات اشتغاله، بصرف النظر عن اللون والانتماء السياسي للفريق الحكومي، ما يفضي بنا، بالضرورة، إلى التمييز بين الحكم، أو الدولة العميقة بكل أذرعها السياسية والأمنية والدينية والاقتصادية والإعلامية، والحكومة التي تشرف على تنفيذ السياسات العمومية من دون أن يكون لها، في أحيان كثيرة، يد في صياغتها ورسم توجهاتها الكبرى، الشيء الذي يطرح بحدة سؤال السياسة الأمنية في المغرب، والفاعلون الحقيقيون المتحكمون في إعدادها وتنفيذها وتقييمها. ولذلك، لم يفاجأ كثيرون، حين أكد رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، عدم مسؤوليته عما حدث للأساتذة المحتجين، ما يطرح علامات الاستفهام بشأن طبيعة الجهاز التنفيذي، وتداخل الصلاحيات بينه وبين مؤسسات وأجهزة أخرى.
ربما كان المغرب القطر العربي الوحيد الذي أبان مرونةً كبيرة في التعاطي مع الخطاب الحقوقي الكوني، الوافد من البيئة الدولية التي أنتجتها نهاية الحرب الباردة قبل أكثر من ربع قرن، فعمل على استيعاب التشريع الدولي في هذا المجال، وإدماجه في بنياته القانونية والمؤسساتية، ناهيك عن تدابير وإجراءات أخرى، أهمها تجربته غير المسبوقة في المنطقة في مجال العدالة الانتقالية. وعلى الرغم من أن هذا التوجه فقد بعض زخمه، لا سيما بعد أحداث
16 مايو/ أيار 2003 (تفجير إرهابي في الدار البيضاء)، وصعود خطاب الحرب على الإرهاب إلى الأجندات الإقليمية والدولية، إلا أن الحراك الشعبي العربي الذي انطلق مع بداية 2011 خلط الأوراق، فاضطرت السلطة، ومعها النخب، إلى البحث عن "وصفة محلية" للتفاعل مع ارتدادات هذا الحراك في الشارع، من دون أن يكلفها ذلك كثيراً، وهو ما تحقق في الدستور الصادر في يوليو/ تموز من السنة نفسها، والذي تضمن مقتضيات متقدمة، خصوصاً فيما يتعلق بالحقوق والحريات، فقد نص على "عدم المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن أي جهة كانت، خاصة أو عامة. ولا يجوز لأحد أن يعامل غيره، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطّة بالكرامة الإنسانية".
نتساءل، هنا، ما قيمة هذه المقتضيات على ضوء عدم تورع قوات الأمن عن استعمال العنف المفرط في حق احتجاجات سلمية، يعبر فيها أصحابُها عن مطالب اجتماعية وحقوقية مشروعة؟ ما موقع الحكومة من المفارقات المعبرة التي ينتجها هذا التناقض الصارخ بين نص دستوري، يفترض أنه أسمى وثيقة قانونية في البلاد، وواقع متحرّك لا يتوقف عن إفراز توتراته الاجتماعية المختلفة؟ وما الوضع الذي سيصبح عليه النقاش بعد اليوم، بشأن تنزيل مقتضيات هذا النص، وإخراجها من سياقها النصي الجامد، والدفع بها نحو معترك التدافع السياسي والاجتماعي؟
تدرك السلطة والنخب والمجتمع في المغرب أن تصريف هذه المقتضيات داخل سياق سياسي واجتماعي تقليدي يظل خاضعاً، إلى حد كبير، لموازين القوى السائدة، وارتباطها بالمحيط الإقليمي والدولي، ما يعني إمكانية أن تمارس بعض الأجهزة والمؤسسات الأمنية عملها خارج نسق الشرعية القانونية، إذا تطلب الأمر ذلك، الشيء الذي يظهر "منسجماً" مع طبيعة نظامٍ يُصنف عادة ضمن "الأنظمة الرمادية" التي تعرف نوعاً من اللبرلــة السياسية التي لا تصل إلى القطع النهائي مع الاستبداد والتحكم. وهنا، يبدو دالاً إقدامُ وزارة الداخلية على إصدار بيانٍ، وصفت فيه ما حدث "بالإصابات الخفيفة التي حدثت بفعل الفوضى والتدافع وسط المحتجين، عند تعمدهم تحدي القوات العمومية واستفزازها، والإقدام على محاولة اختراق الطوق الأمني لدفعها للمواجهة"، كما أشارت إلى أن ما حدث كان "بتشجيع من أطرافٍ اعتادت الركوب على بعض المطالب الفئوية لإذكاء الفوضى".
يضعنا التنصل من المسؤولية بتعويمها، واستعمالُ عباراتٍ لا تمت لما حدث بصلة، إزاء ما يمكن وصفه بوجود خطوط حمراء متحركة وغير ثابتة، يشتبك فيها القانون بالأمن والسياسة ومتغيرات الجوار الإقليمي، فالعنف المفرط الذي كانت السلطة تتورّع عن استخدامه قبل أربعة أعوام، حين كانت جذوة الحراك الشعبي في ذروتها، أصبح بإمكانها اللجوء إليه الآن، من دون رقيب أو حسيب، على الرغم من مخالفة ذلك النص الدستوري.