إحراق الرضيع والمشهد الفلسطيني

05 اغسطس 2015
+ الخط -
استنفدت بيانات الفصائل الفلسطينية التي تطالب بإنهاء الانقسام رصيدها من النُبل وحُسن النيات، وباتت تَسْحَب على المكشوف. بقي أن يُضاف إلى رصيدها رصيد من نقاط لازمة لوضع النقاط على الحروف. ولا يختلف وطنيان على أن إنهاء الانقسام بات أمنية فلسطينية عزيزة، لكن السؤال، متى وكيف ومن الذي يعطل الوئام الوطني والتوافق على استراتيجية عمل واحدة، في هذا الخضم الخطير الذي يواجه فيه الفلسطينيون رياحاً احتلالية عاتية ومسمومة؟
قبل الوقفات في الميادين، والكتابة في الصحف، وتدبيج البيانات، ينبغي أن تجتمع الفصائل، لكي تتفق على صيغة يمكن أن تقوم عليها كيانية أو سلطة وطنية مهابة، تشارك فيها قوى حسمت أمرها، فاجتمعت على قواسم مشتركة، واعتزمت، في خطط عملها، أن تستند إلى المقتضى النضالي الحقيقي الذي تحميه محددات دستورية وقانونية، وأن تصيغ برامجها وآليات عملها على كل صعيد، على أسس واقعية، على نحوٍ يوائم بين ضرورة أخذ كل المعطيات والحسابات الموضوعية بالجدية وبالروح المسؤولة، وحاجة النضال الفلسطيني إلى الشجاعة والتحدي، وتكييف أساليب العمل الفلسطيني الكفاحي مع ضرورات التحمل والاستعداد للأكلاف.
في صياغة شكل قيام الكيانية الفلسطينية الواحدة ومحتواه وعناصره؛ تُنحّى الديماغوجيا والكلام المرسل جانباً، ويُحال التسوويون، بائعو الأوهام، إلى الأرشيف الفلسطيني الزاخر بكل أنماط الناس. فما يحتاجه المواطن الفلسطيني، اليوم، هو إعادة تأسيس بنية اجتماعية قادرة على الصمود سنوات طويلة، وتكون في حياتها اليومية، وفي ثقافتها وفي انشغالاتها، على جاهزية حقيقية، لممارسة التحدي ومواجهة فظاظات الاحتلال، بكل ما يُتاح من فرض ومن هوامش للحركة الكفاحية على كل صعيد.
في ظهيرة يوم الجمعة الفائت، ارتسم في رام الله مشهد مؤسف، يعكس خطاً من السلوك يعاكس، في الوجهة، خط الإدانات لجريمة إحراق الطفل الرضيع علي دوابشة. فقد انتهى إلى أسماع السلطة، أن هناك نية لإطلاق مسيرة استنكار قصيرة المسافة، بعد أداء صلاة الجمعة ثم صلاة الغائب على روح الطفل. جاء جنود "مكافحة الشغب"، بخوذاتهم ودروعهم وعصيّهم، وزنّروا مسجد جمال عبدالناصر من كل الجهات، ما اضطرني إلى الصلاة على رصيف الشارع. كان عددهم يكاد يوازي عدد المصلين. المسيرة خرجت، وفي ختامها على بعد أمتار من المسجد، وقف خطيب، وتحدث بلغة تصالحية أحرجت القوة الشرطية. نحن هنا، بصدد بُنية بلا أساس، لا تحتمل أعمدة يقوم عليها أي موقف صلب. كان بمقدور أهل "القوة" أن يتريّثوا، وأن يرسلوا سيارة لكي تراقب، فإذا خرجت المسيرة عن النظام العام، يمكن استدعاء جنود الخوذات والهراوات، وعندئذٍ، ستكون هناك وجهات نظر مختلفة للموقف.
لعل من مقتضيات الدعوة، أو المطالبة بإنهاء الانقسام، أن تُرمى بشجاعة، في وجه كل الأطراف، وعلى مرأى من المجتمع، ورقة التوصيف الصحيح لكيفية قيام السلطة الفلسطينية الواحدة، ولكيفية عملها الممكن، ولطبيعة سلوكها السياسي والاقتصادي، على أن يتحدد أمام المجتمع، وأمام الأشقاء والأصدقاء، الطرف المسؤول عن إنهاء الانقسام. أما أن نتجاوز عن ذلك، لنقف وندعو إلى إنهاء الانقسام، من دون أن نحدد كيف ومتى وبأيّ آلية وعلى أيّ أسس، فإن الانقسام لن ينتهي، بل سيفتح استمراره أبواباً لتداعيات أخرى، ولتصعيد التهاجي، مع تحميل كل طرف الطرف الآخر المسؤوليةَ عنه.
فمن يُطالب مَن بإنهاء الانقسام؟ عندما يطلق المستقلون في غزة، والمنظمات الأهلية، صرخة إنهاء الانقسام؛ يراها الحمساويون اتهاماً ضمنياً لهم بأنهم العقبة. والشيء نفسه يحدث عندما تكون وقفة المطالبة بإنهاء الانقسام في الضفة. ويزداد الأمر التباساً عندما تكون الصرخة من الفصائل. فكيف تطالب الفصائل، مع تجهيل العائق وتجهيل الفاعل، وهي حاضرة في الاجتماعات والكواليس، وبمقدورها صياغة ورقة تتمثل الحكمة والوجدان الشعبي، وتجيب، بلغة السياسة والمدركات التاريخية مع القانون والثقافة الدستورية، عن أسئلة من شاكلة: ما شروط قيام سلطة الحكم الواحدة، على أصعدة السياسة، والمؤسسات، والأمن والوظائف ومهام المرحلة؟