السودان.. الانقلاب والفساد المؤسس

25 اغسطس 2015
+ الخط -
ما الدوافع التي حركت الحديث الكثير في السودان، في هذه الأيام، عن مكافحة الفساد؟ أصبحت هذه المكافحة قضية يجري تسليط الضوء عليها إعلاميا في السودان، وهذا إيجابي في حال ما إذا كان يمضي في الوجهة الطبيعية والإيجابية. ومن هذا مشروع قانون تقدم به وزير العدل الجديد، عوض الحسن النور، للبرلمان لإجازته، تشير بعض تفاصيله، كما تسربت إلى الصحف، إلى منح مفوضية مكافحة الفساد "الحق فى استدعاء الدستوريين، وأي مسؤول حكومي آخر، من دون اللجوء إلى الأجهزة المختصة لاستجوابه، والتحقيق معه بشأن أي قضية، أو شبهة فساد". ثم كتبت صحف باحتفالية "ومنح مشروع القانون المواطنين حق الشكوى ضد أي مسؤول حال امتلاكه مستنداتٍ، تثبت تورطه في فساد إلى المفوضية المكونة من وزارتي العدل والداخلية، لتتوليا التحقيق في القضية، ومن ثم إحالتها إلى المحاكم الجنائية أو المدنية".
يصب هذا كله في خانة الإيجابي المطلوب وبإلحاح، لوقف الفساد الذي اتخذ شكلا وبائياً في السودان. ولكن، عملياً، تُستعاد ذكرى مؤتمر الاتحاد الإفريقي الشهير في سرت الذي أقر فيه القادة الأفارقة في تطور مهم أن يدان كل انقلاب عسكري، يقع في أي من دول القارة السمراء. ولكن، عندما بدأ القادة بحث التفاصيل، اصطدمت الفكرة النبيلة هذه بالواقع، إذ إن عدداً معتبراً من الرؤساء الحاضرين في القمة، بمن فيهم مضيفها معمر القذافي، تنكبوا طريق الانقلاب العسكري للوصول إلى الحكم. وتفتقت عبقرية القادة بأن يطبق القرار اعتباراً من قمة سرت فصاعداً، ومن دون نبش الماضي الأليم، والعودة إلى التاريخ، وبعضه قديم، يوجب إسقاط الجرم عن الانقلابيين، وفقا لتفسير قيادات إسلامية، سألها صاحب هذه السطور، في مؤتمر صحفي، عن السر وراء تشددهم في ما يصفونه، بدأب، انقلاباً عسكرياً في مصر، ويتجاهلون، في الوقت نفسه، وبإمعان، انقلاباً عسكرياً تجاوز عمره ربع قرن في السودان.
وفي الواقع، لا يمكن الفصل بين الفساد ظاهرة والانقلاب العسكري فعلاً خارج السياق العام السياسي والاجتماعي، فالانقلاب العسكري وكر الفساد المؤسس. وتثبيت أركان حكم منبت، لا عمد له وسط المجتمع، يقتضي عملية إفساد واسعة ممنهجة، وتنتهي به إلى نشر تلوث سياسي واجتماعي مدمر. والانقلاب ابتداء هو فعل لصالح جماعة سياسية، أو اقتصادية، أو طبقة يفرض غلبتها وأفكارها ونهجها وضمان مصالحها بقوة السلاح. وتتم عملية واسعة لشراء ولاء أحزاب، أو قوى اجتماعية، عدا عن القوات النظامية، بمختلف مسمياتها، وتستحيل هذه القوى مجتمعة إلى شعب وحكومة الانقلاب. وينجم عن هذا الفعل تفتيت ممنهج للقوى السياسية المنظمة، وإضعافها، وإبعادها عن دائرة التأثيرين، الاجتماعي والسياسي.

ويحرص الانقلابيون على ممارسة سياسة إفساد وإبعاد واسعتين للقوى الحية في المجتمع من نقابات ومنظمات أهلية، تبدأ بالترهيب والاعتقال والتعذيب، ثم الإحالة إلى الصالح العام، وتنتهي بشراء الذمم. وفي المحصلة، ونتيجة هذا كله، ليس فقط تتم عملية إزاحة الطبقة السياسية والاجتماعية من على الساحة، بل تنهار أعمدة الدولة بكاملها، وتزدهر صناعة الفساد. هذا بالضبط ما جرى في السودان، ومنذ بداية تغلغل الحركة الإسلامية داخل المؤسسة العسكرية التي سعت إلى شراء قادتها بالمال، إلى درجة أن البيان العسكري الأول لانقلاب الرئيس عمر البشير صيغ، وجرى تسجيله تلفزيونياً كما هو معروف، في بناية وسط الخرطوم للحركة الإسلامية.
تريد الحكومة السودانية، اليوم، أن تحارب الفساد، ربما لأنه أصبح منفلتاً بأكثر مما ينبغي، وخرج عن السيطرة. لنفترض جدية الأمر، والله أعلم بالنيات، فلماذا هذه الرحلة الطويلة ومشروع قانون جديد؟ ولماذا مساءلة الدستوريين ووضع الأمر كأنه عبقرية نزاهة، أشرقت على السودان بغتة؟ ولماذا تأسيس مفوضية شفافية ومكافحة الفساد؟ ولماذا يخرج كبار المسؤولين، بين فترة وأخرى، لحث المواطنين على تقديم ما لديهم من أدلة موثقة ضد كل مفسد؟
أصبح الفساد ظاهرة وبائية في السودان، يتفق على ذلك المواطن البسيط، وبات يقر بهذه الحقيقة أعلى رأس في الدولة. ودليل إقرار الدولة بهذا الحال هو إنشاء المفوضية، وهي، على الرغم من اسمها الفضفاض، أفضل مثال على الفساد المستهدف نفسه، لأن أهم وأعرق مؤسسة لمكافحة الفساد في السودان، ومنذ تأسيس الإنجليز الدولة الحديثة في السودان، هي ديوان المراجع العام، وهو حي وموجود منذ عقود. وللمفارقة، يعين رئيس الجمهورية، هذا المراجع العام، ولا مرجعية له سوى رئيس الجمهورية، ولا يعزله سوى رئيس الجمهورية الذي يتسلم نسخة من تقرير المراجع السنوي، ويتسلم البرلمان نسخة، بهدف المحاسبة، الفورية والمحددة بفترة زمنية. واذا كان الحال كذلك، فلماذا يصور قادة الدولة بأن في الأمر عجبا، كما في أغنية الكابلي؟ لماذا تطلب الموثق، ولديها أفضل موثق رسمي في الدولة.
لا يحتاج الأمر إلى قوانين جديدة قطعاً، ولا تذكير الناس بأن رائحة الفساد باتت تزكم الأنوف، لأن المواطن السوداني تواضعت مناعته، إلى درجة مريعة، وافترسه الفساد الرسمي قبل غيره. ولا شبيه لمفوضية مكافحة الفساد في الفساد المؤسس للدولة في السودان، سوى هيئة شؤون المغتربين، وهي هيئة غرائبية، إذ تطرد الدولة، وبطريقة مؤسسة، خيرة كوادرها، ثم تلتف عليهم، لتمتصّ ما ادخروه. وبلا حياء، تقيم لهذا التعسف مؤسسة متضخمة، بهدف وحيد، هو الابتزاز المالي المؤسس بلا مقابل.
لو تنزع الدولة السودانية دثار الوهم. لديها ديوان المراجع العام، وبالإمكان التعامل الجاد مع تقريره السنوي، وهو أكثر من كاف. ولمن لا يعرف، تقرير المراجع العام السوداني أحد أهم المصادر الرئيسية التي تستند إليها منظمة الشفافية الدولية في تقريرها السنوي عن السودان. وأمام الحكومة أحد طريقين لمحاربة الفساد: نهج القادة الأفارقة، بمعنى من الآن فصاعداً، أو التعامل مع تقرير المراجع بأثر رجعي، ونبش السنوات الماضية بكل روائح الفساد وألوانه، والتي تركت جروحا غائرة على اقتصاد السودان وإنسانه. ودعونا من الكلام الكبير وقانون الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وبنودها. لنبدأ بما هو قائم وموجود وموثوق.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.