إيران.. الدبلوماسية في خدمة الإستراتيجية

20 يوليو 2015

ظريف وصالحي بين مفاوضيهما في فيينا (يوليو/2015،أ.ف.ب)

+ الخط -
توصلت إيران والقوى الست الكبرى إلى اتفاق تاريخي بشأن برنامج طهران النووي، بعد سنوات من المفاوضات الطويلة والشاقة. وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق ينص على الحد من الطموحات النووية الإيرانية، وخضوع البرنامج النووي لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنه في المقابل، تضمن بعض المقتضيات التي تصب، بشكل أو بآخر، في مصلحة إيران، وأبرزها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، واحتفاظها بمنشآتها النووية الموجودة. وهو، بهذا المعنى، اتفاق متوازن فيما يخص حقوق الأطراف الموقعة عليه والتزاماتها.
لكن، من الناحية السياسية، يمثل هذا الاتفاق نجاحا لافتا للدبلوماسية الإيرانية التي برهنت، مرة أخرى، على احترافيتها وقدرتها على تدبير الضغوط المختلفة وتوجيهها، بما يوسع هامش المناورة، أو يحافظ عليه على الأقل. استطاعت هذه الدبلوماسية استثمار عناصر القوة المتوفرة لدى طهران، وتعزيزها ضمن رؤية استراتيجية متسقة للوضع الإقليمي والدولي، بغاية إيجاد نوع من التوازن في سياستها الخارجية. من هنا، استطاعت إيران أن تتجنب سيناريو المواجهة العسكرية مع الغرب، التي لاحت في الأفق، أكثر من مرة، خلال مسار المفاوضات الذي امتد اثني عشر عاما. كما حافظت على الحد الأدنى من حقوقها النووية، في انتظار ما ستعرفه المنطقة من متغيرات وتوازنات في الأعوام المقبلة، خصوصاً في ظل وجود جناح متشدد داخل النظام، يرى في البرنامج النووي أحد عناصر القوة الأساسية الذي على إيران أن تسعى إلى امتلاكه وتطويره.
وبخصوص جوارها العربي، يمكن القول إن أهم إنجاز حققته إيران يكمن في إبعاد دول الخليج من مختلف المعادلات المرتبطة ببرنامجها النووي، بعد التوقيع على اتفاق فيينا. ففضلا عن أن هذه الدول لم تشارك في المفاوضات، وبالتالي، لم تستطع التأثير على مساراتها أو مضامينها، فهي الآن أمام أمر واقع، ستكون له تبعات إقليمية على كل الأصعدة، ما يمكن اعتباره نجاحا سياسيا آخر لإيران في المنطقة، حيث سيفتح أمامها دروباً أخرى للتوسع السياسي والمذهبي والعسكري، ويمنحها هامشاً إضافيا لإعادة ترتيب أوراقها، خصوصاً في العراق وسورية ولبنان واليمن، ويعزز نفوذها الإقليمي.

من هذا المنطلق، فإن أهم مكسب قدمه الاتفاق لإيران أنه أخرج، ولو إلى حين، القضايا الإقليمية الكبرى التي تعنيها مباشرةً من ترتيباته، وألقى بها إلى حلبة التدافع الاستراتيجي في المنطقة، وهو الأمر الذي قد يشكل بالنسبة لها دافعا قويا لزيادة حجم تدخلاتها المتعددة الأوجه. ففي سورية، ومع غياب موقف واضح لدى إدارة باراك أوباما إزاء الوضع هناك، والتراجع العسكري لقوات الأسد وحزب الله أمام فصائل المعارضة المسلحة، تجد طهران نفسها مدعوة لزيادة دعمها العسكري واللوجيستي لحلفائها، بما يواكب التداعيات الاستراتيجية المفترضة التي تلي إبرام الاتفاق النووي. ولعل ما يعزز هذا الاحتمال أن الولايات المتحدة لا تتوفر على رؤية متكاملة ومتسقة حيالَ ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء تعثر الحسم العسكري في سورية واليمن، واختلاط الأوراق في العراق بفعل الاصطفافات الطائفية الناتجة عن المواجهات العسكرية الدائرة حالياً بين الجيش مدعوما بمليشيات الحشد الشعبي وتنظيم الدولة الإسلامية. لذلك، إن تخلص إيران من عبء الملف النووي بكل إكراهاته، ربما يجعلها أكثر تركيزا في تعاطيها مع منطقة تعرف غيابا عربيا لافتا، بفعل انشغال معظم الدول بترتيب أوضاعها الداخلية، بعد زلزال الربيع العربي. 
وعلى الرغم من أن محللين يرون أن توصل إيران إلى تسوية مع الغرب بشأن برنامجها النووي قد يُروضها، ويجعلها أكثر نضجا وحكمة في سياستها اتجاه المنطقة، فإن ذلك يبدو مستبعداً، بالنظر لعدة أسباب، أبرزها بنية النظام السياسي الذي يجمع بين خاصيتين، على ما فيهما من تناقض ظاهر؛ فعلى الرغم من الصلاحيات الكبرى والواسعة التي يضطلع بها المرشد الأعلى للجمهورية، مدعوما من الحرس الثوري، إلا أن هناك ما يشبه التوزيع الأفقي للأدوار بين مختلف مراكز القوة المعنية بصناعة القرار الإيراني، وهو ما يجعل الأخير نتاج توازنات دقيقة ومدروسة بين التكتيكي والاستراتيجي، بين منطقي الدولة والثورة، بين التيارين الإصلاحي والمحافظ. علاوة على ذلك، من شأن رفض إسرائيل القاطع لمضامين الاتفاق، واستمرارها في معارضة النشاط النووي الإيراني، أن يعزز أكثر موقع التيار المحافظ في السياسة الخارجية لطهران، على اعتبار أن العدوانية الإسرائيلية تجاه إيران شكلت دائما أحد الموارد الأساسية لخطاب هذا التيار ومواقفه بخصوص المنطقة.
من المؤكد أن الاتفاق الذي وقع في العاصمة النمسوية بمثابة تسوية كبرى بين القوى الكبرى وإيران، كما أنه إنجاز نوعي بالنسبة للأخيرة التي نجحت، أولاً، في التموضع من جديد وبشروط مغايرة، في قلب المعادلة الإقليمية، بكل تعقيداتها الأمنية والسياسية. وثانياً، في أن تخرج بأقل الخسائر من مواجهة دبلوماسية ضارية، استغرقت أعواما، وأبان فيها المفاوض الإيراني احترافية كبيرة في تدبير الخيارات والبدائل المتوفرة لديه، وهو يواجه صقور دوائر صنع القرار الدولي. ولا مبالغة في القول إن ما حدث في فيينا درس بليغ للدبلوماسية العربية الفاشلة، والمفتقدة دوما المبادرةَ والفعالية اللتين تتطلبهما دهاليز السياسة الدولية ومتاهاتها.