بعد موسم الدراما العربية الجديد

19 يوليو 2015

من مسلسل "أستاذ ورئيس قسم" بطولة عادل إمام

+ الخط -
دعا المخرج، نجدت أنزور، قبل عشر سنوات، إلى سحب بساط الدراما التلفزيونية العربية من شهر رمضان، فلا يقتصر موسم العرض لجديد إنتاجها السنوي في الشهر الكريم، بالنظر إلى كثرة هذا الإنتاج، المهول أحياناً، فيتوّزع على موسمين أو أكثر، من أجل أن تُعطى الأعمال الدرامية الجديدة فرصتها من المشاهدة، وحظوظا أفضل في تلقيها واستقبالها، وفي تقييمها. لم تُسمع دعوة أنزور تلك، ولم تلتفت إليها القنوات الفضائية، بالنظر إلى العادة التي توطنت في تقاليد التلفزيون العربي منذ عقود، وبالنظر أيضا إلى نفوذ شركات الإعلان واعتباراتها، ورؤيتها الحاسمة في أفضلية رمضان موسماً لتكثيف ضخ الإعلانات المهولة في أثناء مسلسلات رمضان، وخصوصا للنجوم المشاهير، وفي المسلسلات ذات الشعبية المعلومة. 

ولأن "مطحنة" رمضان صارت مستقرّة، وليس في المنظور إحداث أي تعديل في إيقاعها، فإنك أمام معادلةٍ تقوم على مبدأ التنافس الشرس، بشروطه ومعاييره واعتباراته الصعبة، والمتصلة حكماً بالتسويق والإشهار والترويج، وهذه كلها صناعات تتطلب خبرة ليست هيّنة. وفي كل الأحوال، من الطبيعي ألا تتيسر لمسلسلات ذات قيمة فنية ودرامية رائقة، على الصعيد الجمالي، وعلى صعيد المحتوى والمضمون، فرص المشاهدة التي تستحق، فلا تأخذ حقها اللازم من الانتباه إليها، فيما تحظى أعمال بائسة، وتلفيقية، وسخيفة، برواج حماهيري واسع، اعتماداً على نجومية البطل الفلاني فيها، وعلى شطارة في التسويق والإنفاق عليه. وفي الوسع أن يقال إن هذا الحال لا يقتصر على الدراما التلفزيونية ومنتوجها، بل يكاد ينسحب على أجناسٍ فنية وإبداعية أخرى، وأسباب ذلك طويلة.
ولكن، لا يحسن الاطمئنان إلى هذه المسلّمة، واعتبارها قولاً فصلا، لا يجوز فحصه أو اختبار تفاصيله، فالتلفزيون أصلا جهاز شعبي، يتوسل الترفيه والتسلية والمتعة، وتزجية الوقت أيضاً. وليس من اللائق، ولا المناسب، إخضاع الإنتاج الدرامي والمسلسلات التلفزيونية إلى غير شروط الفضاء الذي تتحرك فيه هذه الوسيلة الإعلامية، ذات النفوذ الجماهيري الفادح. ولأن المعادلة دقيقة، هنا، يحسن التنويه إلى أن الالتفات إلى وجوب عدم التعمية على هذا الأمر لا تعني الانسراق إليه تماماً، ففائض التفاهة والسذاجة الغزيرتين في مسلسلات تلفزيونية عرضت في موسم رمضان الماضي اعتداء على العقل، وامتهان للفن نفسه. وهذا مسلسل عادل إمام (أستاذ ورئيس قسم)، مثلا، لا يمكن أخذه على محمل الجد، وهو يخوض في شأن سياسي واجتماعي راهن في مصر، بدعائية رديئة. وكنا سنحتمل التلفيقات غير المنطقية في بناء حكايته، من باب أن منتوج أفلام عادل إمام ومسلسلاته، في غالبها، مجرد مشاهد تتابع لاستعراض النجم الشهير حضوره، لو أن هذا العمل الجديد لم ينصرف إلى هذا القاع من الانحياز السياسي للسلطة الحاكمة حاليا في مصر.
طالعنا عن استحسان جمهور عربي عريض مسلسل (غدا نلتقي) السوري، وكذا (وجوه وأماكن)، وغيرهما، وطالعنا عن الضجيج الذي واكب (حارة اليهود)، وصادفنا آراء وانطباعات بشأن أعمال مصرية وخليجية وسورية. والأوضح في هذا كله، وغيره، أن الأناقة الرائقة، في المعمار التلفزيوني الدرامي الذي يحقق معادلة الإمتاع والإفادة، الترفيه والفن، باتت شحيحة في راهن الدراما العربية. وفي البال أن مسلسلات شوهدت في مواسم الثمانينيات والتسعينيات كانت راقية، وتتوفر على حس جمالي فائق، وإيقاع جذاب جميل. من يتذكّر "حمام القيشاني" وبعض "ليالي الحلمية"، "ملوك الطوائف" و"بوابة الحلواني"، أمثلة سورية ومصرية، وثمة غيرها من نتاجات خليجية وأردنية، وثمّة التميز الباقي في أرشيف التلفزيون العربي للثنائي المجتهد، أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ.
ليست نوستالجيا إلى زمن مضى، لكنها الحقيقة البادية، كما أظهرها مجدداً، موسم رمضان الماضي، أن الدراما التلفزيونية العربية مريضة، بمحدودية الخيال، وبفقر المواهب، وبسيطرة التفاهة، ولا نظن أن على شهر رمضان مسؤولية في هذا الحال، وإنْ ما زالت لدعوة نجدت أنزور المنسية وجاهتها وضرورتها.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.