الإضراب أبو السبع أرواح

19 يونيو 2015
+ الخط -
كلّما انتهى اضراب الا وظهر آخر، وكلما تحقق مطلب على "ظهر اضراب" الا وتبعته مطالب أخرى واضرابات أخرى، وبدا الأضراب كأنه كائن "أبو سبع أرواح"، لا ينتهي أبدا.
مسلّمتان لا جدال فيهما، الأولى أن الأضراب حق دستوري، ومن أقدم الوسائل لتحقيق المطالب، فأوّل إضراب في التاريخ كان سنة 1152 قبل الميلاد في عهد الفرعون رمسيس الثالث، كما تمّ استعماله، حديثا، في كل دول العالم، لغايات مختلفة. والثانية أن القدرة الشرائية لكل المواطنين التونسيين تدهورت إلى حدّ مفزع، توجّب فيه على الأطراف المتنازعة، حيث أصبح الأضراب نزاعا بين النقابات والحكومة، التحرّك السريع لإيجاد الحلول الملائمة، والتي لا يجب أن تقتصر على أن الزيادة في الأجور هي الحل الوحيد والأوحد.
وبديهيتان لا جدال فيهما أيضا، الأولى ضرورة أن نستنكر تحويل وجهة الأضراب من وسيلة لتحسين الظروف المعيشية إلى آلة هدم للدولة على رؤوس الجميع، هذا إذا اعتبرنا أن الصراع القائم ليس على مواقع الحكم، والثانية تحريم تقسيم المجتمع إلى فئات وقطاعات لا روابط بينها، وكأنها دولا داخل الدولة.
بعد الثورة، تحوّلت الأذرع النقابية في تونس إلى معاول هدم حقيقية للدولة ولكياناتها، من حيث عددها الخيالي، ومن حيث نوعيتها. وأكّد باحث بريطاني أنّ عدد الإضرابات، في تونس، في السنتين الأوليتين من الثورة فاق 35 ألف، ولسائل أن يسأل عن قدرة الاقتصاد التونسي على تحمّل مثل هكذا عبء من توقف الإنتاج، وكم خسرنا من يوم عمل، وكم يقابلها من أموال كان يتوجب ضخها في ميزانية الدولة؟ وكم سيكلف ذلك من خسائر في مواطن الشغل؟ فالأكيد أن الضريبة ستكون كلفتها غالية على كلّ الشعب، وليس على القطاعات أو الأفراد الذين أضربوا.
نوعان من الإضراب ما كان لهما أن يقعا في تونس الخارجة من ثورة، والمهدّدة بالفوضى، والتي بدأ ينبت في تفاصيلها الإرهاب، الإضراب الذي يوقف منتجاً يساهم في خزينة الدولة وفي إطعام كل الشعب، والإضراب الذي يرتهن فئة من المواطنين، من أجل فرض مزايا مادّية لفئة دون فئات أخرى.
فمن المستفيد من توقف إنتاج الفوسفات لأشهر، وهو الذي يساهم بإنعاش الاقتصاد الوطني بما يقدر بتسعة مليارات يوميا؟ المستفيد طرفان، الدول الأخرى المنتجة للفسفات، والتي افتكت أسواقنا التي أصبحت غير مستقرة وغير مضمونة، ثمّ "الدواعش" الذين يغتنمون كل الفرص لبثّ الفوضى لإحراق البلد، وهؤلاء ليس الذين يسكنون الجحور في الجبال فقط، وإنما تلك النفوس المريضة التي لا تهمها غير مصالحها الضيقة، وتسكن بيننا.
ومن ناحية أخرى، أي معنى لأضراب ترتهن فيه فئة من الشعب فئة أخرى، غالباً ما تكون عاجزة قانونا، لتحقيق أهدافها على حساب المجموعة الوطنية؟، أليس هذا نوعاً من الإرهاب، ألا يسمى هذا "الاختطاف القهري"، واستعمال "الرهائن" للتفاوض، ألا يعاقب على ذلك القانون؟ وتستنكره الإنسانية؟
قد يتحجج بعضهم بأن هذا ما يحدث أيضا في الدول الكبيرة والعريقة في الديمقراطية، والتي تحترم حقوق الإنسان، فهل هم أفضل منّا؟ لكن الأمر ليس على شاكلة ما يصوّر، فهناك اختلافان جوهريان بيننا وبينهم. الأول أنهم دول مستقرة سياسيا واقتصاديا، والثاني، أن كبرى إضراباتهم ليست فئوية، وإن كانت، فهي تهدف إلى العود بالفائدة إلى كل أبناء الشعب، من دون استثناء، وإن تعطلت مصلحة فرد واحد، يعوضون كل خسائره، إلى حد إرجاع ثمن تذكرة الحافلة أو القطار !، وهو ما يستحيل إنجازه في بلدنا قياسا بوضعنا الحالي، وأقول وضعنا الحالي.
ولو تحدثنا عن إضراب المعلمين، الإضراب الذائع الصيت الذي سيمتد إلى السنة الدراسية المقبلة، وقد تحوّل إلى معركة خائبة بين وزير، يبدو غريبا في منطقه، ونقابات استعملت خطابا رديئا ومصطلحات متشنجة وتهديدية، توحي للمشاهد بأننا أمام حركة مسلحة، تسعى إلى احتلال الوطن.
وضع الوزير جعلني لا أجد له منطقة بين اثنتين، فإما أنه لا يدرك المنصب الذي وضع فيه وزيراً للتربية، بما يفرض عليه من توخي خطاب مسؤول وعقلاني، أو انّه يعمل ضمن أجندة خفية، تدفع إلى تعكير الوضع وتأزيمه، ربما لمصلحة إسقاط الحكومة القائمة، إذا ضمن موقعا في الحكومة المقبلة.
وبالنسبة لنقابة المربين، كان خطابهم متعاليا، صداميا، موغلا في العدمية، مؤكّدا أن قطاع المربين "فئة"، من دون فئات الشعب، تبحث عن منافع مادية بحتة لفائدتها على حساب كلّ التلاميذ بالمرحلة الأولى من التعليم الأساسي. ولا يضيرها إن خسر هؤلاء التلاميذ سنة دراسية، وسنة من أعمارهم، فالمهم أن يمنح المربين ما يقاتلون من أجله، الزيادات في الأجور ومنح أخرى.
وكان الوزير أكثر حماقة ممن اصطدم بهم، فأباح بقلم "القانون" الارتقاء الآلي، ولأن الحمق طبيعة في الحروب البلهاء والخائبة والظالمة، فقد أصرّ المربون على السقوط الآلي لكل التلاميذ، او سنة بيضاء، حينما ذهبوا إلى إسقاط قرار الوزير، بتقديم شكاية إلى المحكمة الإدارية.
وبكل بساطة، الحل "الهوليودي او البوليودي" لهذه الحالة المرضية من هذا الإضراب أن يستجيب الوزير لكل المطالب التي قدّمت إليه، وسيصبح عندها بطلا وطنيا، كما سيصبح النقابيون قادة المرحلة، لأنهم حققوا ما استعصى على القادة الآخرين، منذ أكثر من ستين عاما من النضال! ولكن الرسائل السلبية التي وصلت إلى المجموعة الوطنية كانت سيئة للغاية، عنوانها فقدان الثقة من كل الأطراف، أو فقدان الشعب أو الفئات الأخرى للثقة في المسؤول، كان وزيرا او نقابيا.
ثم ماذا لو استجاب الوزير، فسوف تظهر قطاعات أخرى، وبالمنطق نفسه، ستضحي بفئة من الشعب، لأجل مصالحها، فلأضراب "أبو سبعة أرواح" لن يترك ظهرانينا من دون أن نصبح دولة واحدة، وشعب واحد، ومن دون أن نبحث عن آلية واضحة للأجور في تونس، آلية عادلة بين جميع الطبقات، تؤمّن حقّ البطال والفقير والعاجز.




محجوب قاهري
محجوب قاهري
محجوب أحمد قاهري
طبيب وناشط في المجتمع المدني، يكتب المقالات في عدد من المواقع في محاولة لصناعة محتوى جاد ورصين.
محجوب أحمد قاهري