ذكرى الهزيمة في زمن الهزائم

11 يونيو 2015
+ الخط -
عندما أحييت ذكرى الأربعين لمدينة عكا/ أجهشتُ في البكاء على غرناطة/ وعندما التفَّ حبل المشنقة حول عنقي/ كرهت أعدائي كثيرا/ لأنهم سرقوا ربطة عنقي: محمود درويش
تحل ذكرى الهزيمة (هزيمة يونيو/حزيران 1967) في السنوات الأخيرة، وسط أوضاع فلسطينية وعربية تؤكد، بما لا يدع أي مجال للشك، أن القضية الفلسطينية لم تستطع الانتصار على أعطابها الذاتية، ولم تبلور البرامج والخطط التي تتيح لها مواجهة ذاتها ومواجهة الاستعمار الذي استوطن الأرض، ورفع رايته فوقها، ثم اخترق الذاكرة، ورسم لكيانه في قلبها ملامح محدَّدة، ليتمكَّن انطلاقاً منها من بلورة ما يسعفه من التمكن من الحاضر والمستقبل.
أتصور أن الحديث بالمناسبة المذكورة، أو بدونها، يكون بالتذكير، أولاً، بواقع الهزائم المعمَّمَة اليوم في مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج، فقد تناسلت الهزائم والتراجعات، لتصبح العنوان الأبرز في مختلف البلدان العربية، ومن دون استثناء.
تحضر ذكرى الهزيمة هذه السنة، لتضعنا مُجَدَّداً أمام واقع عربي، تزداد فيه الأوضاع العامة سوءاً، واقع تنتعش في قلبه خطابات العنف والطائفية وتنتصر فيه النّزوعات القبلية والعشائرية، على مختلف صور الاندماج الاجتماعي. تحضر الذكرى لتعلن فشل الدولة الوطنية في أغلب البلدان العربية، في ترسيخ مقومات الوحدة الوطنية الجامعة والكيان السياسي الواحد.
عندما اشتعل فتيل الحراك الاجتماعي، قبل سنوات، وتعالت الأصوات ملوِّحة بضرورة التعجيل بالتغيير في أغلب المجتمعات العربية، تبادر إلى أذهان بعضهم أن رياح التغيير التي هبَّت على الساحات والميادين العربية، همَّشت القضية الفلسطينية وأغفلت مآلات الصراع الجارية بين أطرافها، كما أغفلت، قبل ذلك، مآلات الصراع العربي الصهيوني. ولم يكن الأمر كذلك في نظرنا، فنحن نتصور أن التحولات التي حصلت كانت تترك آثارها بصُوَّر عديدة في قلب المعترك الفلسطيني، سواء في موضوع علاقات بين القِوى السياسية الفلسطينية فيما بينها، أو في موضوع علاقتها بالكيان الصهيوني. وفي ضوء ذلك، نفترض أن أي انفراج يمكن أن يحصل في المجتمعات العربية، وفي معارك تحرُّرِها المفتوحة، سينعكس على القضية الفلسطينية وعلى تطلُّعات الفلسطينيين، وستكون له، بالضرورة، نتائج وآثار في المشهد السياسي الفلسطيني.

صحيح أنه لم يعد في وسع الفلسطينيين اليوم، سواء في الداخل أو في الخارج، أن يتحدثوا عن الإسناد العربي لقضيتهم، لا الإسناد المبدئي ولا الفعلي، فقد تأكَّد بالملموس أن الشأن الفلسطيني في مختلف تجلياته يُعَدُّ شأناً فلسطينياً، أولاً، ويعد بعد ذلك شأناً عربياً. ويُقدِّم واقع الحال في غزة وفي المخيَّمات، كما تُقَدِّم موازين القِوى العامة السائدة اليوم في المشرق العربي، ما يمكن اعتباره، من جهة، صورة من صور الانكفاء الشديد الذي تتعرَّض له القضية، كما يمكن النظر إليه، من جهة أخرى، باعتباره مرحلة جديدة في تاريخ القضية. نتبيَّن ملامح هذه المسألة بوضوح في الأبحاث الفلسطينية الجديدة التي تُعْنَى برصد تحولات وعي فلسطينيي الداخل والخارج بقضيتهم وبمآلاتها في عالم متغير، حيث أصبحنا نقف على مواقف وتصورات متفاعلة مع نوعية التحولات الجارية في الأرض المحتلة، وفي المشرق العربي، وفي العالم.
الخراب الذي يَدُكُّ، منذ ما يزيد على عقد، جغرافية العراق، ويملأ منذ سنوات أقاليم الشام ومدنها، كما يملأ أرض اليمن وليبيا، كاشفاً ضراوة المعارك المتواصلة وعنفها في الأرض العربية، إن هذا الخراب الذي نُعايِن وسط التراجعات العديدة الحاصلة في بلدان العربية، يضعنا أمام مجتمعات ونخب تحاول مواجهة مِحَنَها وصراعاتها المرتبطة بصيرورة تاريخها الذاتي، كما تواجه، في الوقت نفسه، تربُّص المتربِّصِين بجغرافيتها ومواردها، من دون أن تتمكن من بناء ما يُسْعِفُها بِتَخَطِّي عنق الزجاجة، الذي يُكَبِّل حركتها ويشلُّ طموحاتها في النهضة والتقدم.
لا يتعلق الأمر، هنا، ببكائية من وحي الذكرى في علاقتها بأحوال الراهن العربي وأحوال الفلسطينيين، ذلك أنه لا وقت للبكاء في التاريخ. الأمر الذي نريد إعلانه يتمثَّل في محاولة التخلص من ظاهرة الإعلاء من المواقف المبدئية المعادية للتاريخ ومعطياته، والاقتراب، بدل ذلك، من الأسئلة الجديدة والمتغيرات الناشئة، التي ساهمت تَحَوُّلاَت الراهن العربي والفلسطيني في تعيين قسماتها. نحن نشير هنا إلى التحولات الجديدة في وعي الأجيال العربية والفلسطينية الجديدة بمآلات قضيتهم، وكيفيات تفاعلهم مع تاريخهم بانتصاراته وهزائمه، بأحلامه وآماله، لعلنا نتمكن من بناء ما يسعف ببلورة أسس تاريخ جديد ومحطات جديدة، في طريق الانتصار التاريخي على أعطابنا المزمنة.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".