السلفيون في سورية (1/2)

30 ابريل 2015

سورية تقرأ القرآن في المسجد الأموي في دمشق (أغسطس/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -
خرجت سورية من فترة حكم مملوكي عثماني مديدة، دام قروناً طويلة، وقد سيطر النزوع الصوفي والأشعري على ثقافتها الدينية والاجتماعية، بتبنّيه المذاهب السنّية الأربعة (الحنفي، المذهب الرسمي للدولة العثمانية، الشافعي، الحنبلي، والمالكي) وبرفضه ما عداها من مذاهب واجتهادات، وبتعايشه وانسجامه مع السلطة السياسية القائمة، بغض النظر عن مدى شرعيتها وطبيعة هذه الشرعية، شرعية بَيعة أم شرعية تغلُّبٍ قائم على تبادل المصالح والخدمات، وقد أطلق عليه باحثون وصف "الإسلام الشامي"، نسبة إلى بلاد الشام، بحدودها الجغرافية المعروفة، على الإسلام المشيخي الظاهري الذي يكتفي من الدين بالعبادات والمعاملات.
أدى انتشار أفكار الإصلاح وتنقية الدين من الشوائب والقشور والبدع التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني وتلامذته من محمد عبده إلى محمد رشيد رضا إلى وصولها إلى بلاد الشام، وتلقّفها جمال الدين القاسمي (1866 – 1914) الذي دشّن التوجه السلفي في بلاد الشام، بدعوته إلى إصلاح العبادات والمساجد (كان أتباع المذاهب الأربعة لا يصلّون معاً في صلاة جماعة، بل لكل مذهب صلاته ومشايخه)، واعتماد الإسلام النقي أساساً جامعاً وموحِّداً للمسلمين، والتحرّر من الخلاف الفقهي والمذهبي. نجح الشيخ القاسمي في بث أفكار عبده ورضا، وأضاف اجتهاده الخاص، باعتبارها أداة بعث وإصلاح شامل للأمة، واستقطب
واستقطب تلامذةً كثراً مثل محمد بهجة البيطار (1894 – 1976) وأحمد مظهر العظمة (1909 – 
تلامذةً كثراً مثل محمد بهجة البيطار (1894 – 1976) وأحمد مظهر العظمة (1909 – 1982) ممن تابعوا بعده الدعوة إلى السلفية ونشر ثقافتها. وقد أنشأ أحمد مظهر العظمة جمعية التمدّن الإسلامي، والتي أصدرت مجلة بالاسم نفسه، ورأس تحرير مجلتها منذ تأسيسها عام 1933.
غير أن الدعوة السلفية لم تنجح في اختراق المجتمع الشامي، المغلق والمسوَّر بآراء المشايخ التقليديين، اختراقاً في العمق، وبقي تأثيرها مقتصراً على فئة من متعلمي المناهج الحديثة وبعض مثقفي الطبقة الوسطى المدينية، وقد لعب ظهور حركة "الإخوان المسلمين" وانتشارها في سورية، ونجاحها في استقطاب التشكلات الإسلامية الناشئة، دوراً كبيراً في تراجع ظاهرة السلفية تياراً قائماً بذاته، في ضوء كون الحركة، وفق توصيف مؤسسها حسن البنا، دعوةً سلفية، ما أفقد السلفية مبرّر الوجود المستقل، وكونها قوة سياسية منظمة، لها جاذبية للمتعلمين.
عادت السلفية إلى الظهور في ثوب جديد، ومسمى جديد، السلفية العلمية (النظرية) على يد عالِمَي الحديث، الشيخ ناصر الدين الألباني (1914– 1999) الذي تتلمذ على محمد بهجة البيطار، وأخذ عن الشيخ محمد رشيد رضا التوجه السلفي وعلم الحديث، بمتابعته مقالاته التي كان ينشرها في مجلة المنار؛ والشيخ عبد القادر أرناؤوط (1928- 2004) الذي تأثر بكتابات ابن القيّم، تلميذ ابن تيمية، وأخذ عنه التوجه السلفي. وقد تتلمذ على الشيخ الألباني الشيخ محمد عيد عباسي، خير الدين وانلي، الشيخ علي خشان، الشيخ عدنان العرعور، الشيخ محمد جميل زينو، الشيخ عبد الرحمن عبد الصمد، ومحمود مهدي الإستانبولي؛ ومن الذين استفادوا من الشيخ وتأثروا بمنهجه زهير الشاويش وعصام العطار، والشيخ الدكتور عبد الرحمن الباني.
 
بقي حضور السلفية ودورها محدوداً، فقد حاربها المشايخ، واتهموا دعاتها بـ"الوهابية" و"الضلال"، كما حدّت سيطرة تيار الإخوان المسلمين على المشهدين الديني والسياسي من فرص انتشارها، على الرغم من رفدها بالمؤيدين والأنصار من خلال طلاب العلم الشرعي من المغاربة، وخصوصاً الجزائريين الذي جاءوا لتلقي العلم الشرعي في سورية، في معهد الزهراء الشرعي تحديداً، لكن هذا الرفد بقي ضمن حلقات الدرس وأطره العلمية.
سعت السلفية العلمية/النظرية إلى إحياء الكتاب والسنّة والتمسك بمرجعيتهما، ومحاربة البدع والانحرافات الفقهية والفكرية والمذهبية. قال الشيخ عبد القادر أرناؤوط في مسألة التزام الإنسان مذهباً معيناً: "في المسألة تفصيل: فبالنسبة للعامي لا مذهب له، ومذهبه هو مذهب مفتيه، فالتزامه بمذهب يكون أمراً طبيعياً. وطالب العلم الذي في أوّل أمره لا يستطيع أن يميِّز بين الأقوال الصحيحة والضعيفة، فهو يعمل ضمن ما يسمع من شيخه. أمّا بالنسبة لطالب العلم المتمكّن الذي درس الفقه المقارن، وعرف دليل كل إمام من الأئمة، فإنه، عندئذ، يستطيع أن يميِّز بين القول الصحيح والضعيف. وأرى أنه في هذه الحالة لا يحق له أن يكون مقلِّداً"، كما وعملتْ، السلفية العلمية/النظرية، على تصويب ما تعتبره انحرافات في سلوك المسلمين وأفكارهم، استناداً إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ولم تتبنَّ مشروعاً سياسياً، حتى إن بعض شيوخها رأى في الأحزاب السياسية بدعة معاصرة ينبغي الحذر منها وعدم الانتساب إليها.
استفادت السلفية، في العقود الأخيرة، من العمالة السورية في دول الخليج بعامة، والسعودية بخاصة، وكسبت أعضاء ومؤيدين، حيث معظم العاملين من أوساط متوسطة الثقافة أو شعبية ضعيفة الثقافة، إن لم تكن معدومتها. لذا، جعلها عملها في الخليج واحتكاكها الطويل بالخليجيين تتفاعل مع الممارسات الدينية الخليجية التي تنتمي إلى السلفية الوهابية والمحافظة وتتقمّصها، وهذا يفسّر توسّع المدّ السلفي، إبّان الثورة في الأرياف بشكل خاص، وتفاعل سكان الريف السريع مع كتائب السلفية الجهادية وألويتها، ناهيك عن الدور الكبير للمال السياسي، حيث ضُخَّت مبالغ طائلة إلى المجموعات السلفية، ساعدتها في تطوير أوضاعها وتأمين احتياجات أعضائها واستمالة المواطنين بتوفير متطلباتهم اليومية من غذاء وماء ودواء ووسائل تدفئة.

الصراع على الإسلام
مع انتصار حافظ الأسد على خصومه داخل النظام والحزب الحاكم ونجاح انقلابه (16/10/1970) بدأت معركة من نوع آخر، معركة السيطرة على البلد والشعب من خلال الهيمنة والتحكم في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي، بدأت بإطلاق تحولات اقتصادية: فتح الأسواق والسماح بالاستيراد والتصدير. وقد سمحت في البداية في كسب تأييد التجار والصناعيين (معظمهم من السنّة) الذين ضرّهم عهد "يسار" البعث (أو من كانوا يُعرفون بالشباطيين، كونهم قاموا بانقلاب عسكري على رفاقهم في الحزب يوم 23 شباط/فبراير 1966)، وتم منحهم فرصاً لتوسيع نشاطهم التجاري والصناعي، قبل أن تذهب إلى إقامة شراكة بينهم وبين رجالات النظام، خصوصاً ضباط المخابرات، يدفع التجار نسبة من أرباحهم مقابل منحهم حق احتكار أصناف معينة، إنْ عبر الاستيراد أو التصنيع أو استجرار إنتاج شركات القطاع العام بطرق ملتوية واحتكار توزيعها في الأسواق، كما فتحت أبواب التوظيف في الوظيفة العامة، وتثبيت العاملين المؤقتين، ناهيك عن دعم المواد الغذائية والوقود. تلت ذلك مرحلة انفتاح سياسي داخلي، بإشراك أحزاب سياسية في الحكومة، وتشكيل ما عُرف بـ "الجبهة الوطنية التقدمية" التي ضمت أحزاباً قومية (حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، حركة الوحدويين الاشتراكيين، حركة الاشتراكيين العرب…) واليسارية (الحزب الشيوعي السوري)، وانفتاح عربي بالدخول في مشروع الاتحاد الثلاثي مع مصر وليبيا، قبل أن يصبح رباعياً بالتحاق السودان به.
 
أراد حافظ الأسد من إعادة صياغة المشهد الاقتصادي والسياسي الداخلي، وجَسْر الهوة التي أحدثتها سياسات النظام السابق المتشددة مع الدول العربية، إقامة إجماع حوله، لسدّ ثغرة الشرعية التي يعاني منها، كونه صعد إلى سدة الحكم في انقلاب عسكري من جهة، ومن جهة ثانية التغطية على كعب آخيل (كونه علوياً في مجتمع معظمه من السنّة) عبر تحقيق إنجازات تحسن الأوضاع المعيشية والخدمية للمواطنين، تقود إلى تقبلهم قيادته البلاد، وغضّ الطرف عن كونه من أقلية مذهبية. غير أن شهر العسل بين حافظ الأسد والقوى السياسية لم يعمّر طويلاً، حيث كشفت السياسات القائمة على التمييز بين المواطنين، وإعادة صياغة الهرم الاجتماعي والإداري من خلال تنصيب قيادات على خلفية مذهبية، ووضع اليد على الدورة الاقتصادية، وزرع الشقاق في المجتمع، وتخويف الأقليات واستدراجها إلى تحالف غير مقدس هدفه تكريس النظام وتثبيت دعائمه، وذلك كله كشف عن مخاطر جمة.
انفجرت أولى الأزمات، على خلفية صياغة دستور دائم للبلاد 1973، حيث تحفَّظ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي على المادة الثامنة: "حزب البعث قائد في المجتمع والدولة"، ما قاده إلى الخروج من الجبهة، بينما استنفر الإسلاميون (الإخوان والسلفية والمشايخ) على المواد المتعلقة بـ"دين رئيس الجمهورية" ودور الشريعة الإسلامية في التشريع.
أطلق الخلاف صراعاً مكتوماً بين النظام وقوى سياسية متعددة على خلفيات متنوعة: الإسلام ودوره، الشراكة السياسية وصنع القرار الوطني، العامل الاجتماعي والموقف من حقوق الطبقات الفقيرة. وقد استخدم النظام أساليب ووسائل مركبة لتسويق سياساته، وتكريس قيادة حافظ الأسد، عبر ربط كل الإنجازات والإيجابيات بشخصه، لكسب قلوب المواطنين واحتواء أي نقد سياسي، تبدأ من مخاطبة الطفولة (نشير هنا إلى كتاب للأطفال كتبه عادل أبو شنب، وطبعته مؤسسة طلائع البعث ووزعته على المدارس، يضع حافظ الأسد في مصافّ الأنبياء بالحديث عن عجائب كونية حدثت عند ولادته)، ولا تنتهي عند توظيف الدين، مروراً بتزخيم دور الاتحادات والنقابات، من تشكيل طلائع البعث والشبيبة وإلزام الطلاب والعسكر بالانتساب للحزب الحاكم، وصولاً إلى إلزام الاتحادات والنقابات بالدفاع عن مبادئ الثورة (المادة الثالثة من النظام الداخلي لكل الاتحادات والنقابات)، بالإضافة إلى برنامج دعائي شامل لتسويق الرئيس متديناً: عبر حضور صلوات الجُمَع والأعياد واحتفال عيدَي المولد النبوي ورأس السنة الهجرية؛ وتَباري الخطباء على إسباغ صفات الإيمان والانتماء لبيت النبي عليه الصلاة والسلام (خاطبه مروان شيخو مراراً في خطب بـ"يا ابن فاطمة الزهراء")؛ وكذلك التوسّع في بناء المساجد، وفيما بعد، معاهد الأسد لتحفيظ القرآن…؛ وكذلك ترويج انتمائه سراً إلى المذهب السنّي (هذا ما كان يقوله الشيخ محمد سعيد البوطي لتلاميذه)؛ ناهيك عن العمل على احتكار الحديث باسم الإسلام، من خلال تشجيع نمط من الإسلام يوصف بـ"الرسمي" قائم على طاعة أولي الأمر، القبول بحكم المتغلب، و"الشورى مُعلِمة وليست مُلزِمة"، و"الرئيس ظل الله على الأرض"، و"الصلاة وراء كل بّرٍّ وفاجر"؛ والاعتماد على جهود علماء دين ودعاة، مثل مفتي الجمهورية السابق، الشيخ أحمد كفتارو، ومروان شيخو الذي تصدَّر الخطابة في المساجد التي يرتادها رئيس النظام حافظ الأسد، وعدنان شيخو الذي تخصّص بتقديم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون، الدكاترة محمد سعيد رمضان البوطي، صهيب الشامي، محمد حبش وآخرين، وتوظيف ذلك كله في ترويج النظام ورئيسه، وتغطية مواقفه وسياساته شرعياً (تذكر هنا فتوى البوطي بخصوص التفاوض مع إسرائيل).
 
في المقابل، سعت حركة الإخوان المسلمين إلى الإمساك بورقة الإسلام، عبر تأليب المواطنين على النظام، باستثمار نقطة ضعفه الرئيسة، كون رئيس النظام علوياً، وعمله على عَلْوَنة الدولة، بوضع العلويين في المناصب الحيوية، وخصوصاً أجهزة المخابرات والجيش، وفتحه البلاد أمام المد الشيعي الذي تقوده السفارة الإيرانية. ولم ينجح تكتيك "الإخوان" في محاصرة النظام وعزله، وهذا أثار خلافاً داخل الحركة حول الأسلوب المناسب لمواجهة النظام، وبرز تيار يدعو إلى استخدام القوة يمثله مروان حديد وعبد الستار الزعيم وعدنان عقلة، منحهم الخلاف حول موادّ الدستور تبريراً عقائدياً لممارسة العنف، حيث دعوا إلى الجهاد ضد السلطة "الكافرة" باعتباره فرض عين، وشكّلوا "الطليعة المقاتلة" عام 1975، والتي بدأت بالاغتيالات على أساس طائفي، وزاد من دقة الأوضاع إعلان عدنان عقلة، بعد مجزرة مدرسة المدفعية 16/6/1979، عن حركته باسم "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين"، في محاولة منه لجرّ الحركة إلى ما أسماه "الجهاد".
وبقيت الدعوة السلفية خارج الصراع السياسي، على خلفية الاكتفاء بنشر الفكر السلفي في المجتمع وتنقية الإسلام من الشوائب والقشور التي علقت به بفعل البدع المحدثة، والعمل على تصحيح عقيدة المواطنين وممارساتهم الدينية. كان تركيزها على الدروس والمحاضرات وتحقيق كتب التراث التي تعكس الموقف السلفي، وتأليف كتب سلفية جديدة بلغة معاصرة، وإيجاد شبكة علاقات تربط بين أبناء التيار السلفي في عموم البلاد.
وجدت السلطة في المواجهة التي دارت مع حركة الإخوان المسلمين (1976-1982) فرصة للتخلص من الجماعات الإسلامية المستقلة، وإغلاق فضاء العمل الإسلامي الدعوي على الموالين من المشايخ (كفتارو، البوطي، حبش) والجماعات الدعوية (القبيسيات والتبليغ والدعوة والأحمدية) والمعاهد التي تدرِّس الفقه التقليدي (معهد النور/ كفتارو ومعهد الفتح/فرفور) والتضييق على النشاطات الدينية المستقلة، وضرب تعبيراتها وتجلياتها، ومنها الدعوة السلفية، فأبعدت الشيخ ناصر الدين الألباني إلى الأردن عام 1980 بعد أن زجّت به في السجن (8 أشهر في سجن الحسكة)، ومنعت الشيخ عبد القادر أرناؤوط من القيام بأي نشاط ديني أو دعوي، وزجت بأعداد كبيرة من شبابها في السجون.