العراقيون بين اللجوء والنزوح

19 مارس 2015

لاجئون عراقيون يصلون إلى إقليم كردستان العراق (17نوفمبر/2014/Getty)

+ الخط -

هجر ملايين العراقيين ديارهم، في السنوات الأخيرة، لأسباب عدة، أهمها الفقر وفقدان الأمن والخوف على الحياة والعرض، وتعددت الهجرات مع تعدد المسببين والأسباب. وكانت الهجرة الأولى في التسعينيات بسبب الحصار الخانق الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق، وتسبب بفقر شديد للعراقيين، وشبه انعدام لفرص العمل في البلد، فهاجر كثيرون، تاركين عائلاتهم وراءهم، بحثاً عن لقمة العيش، بينما هرب متمكنون مادياً، ومعهم رؤوس أموالهم وعائلاتهم، ليجدوا مكاناً مناسباً للاستثمار والاستمرار بحياة اعتادوها، بعيداً عن وطن يختنق.

وكانت الهجرة الثانية من علماء وطيارين وضباط استهدفتهم قوى لم تعلن عن نفسها، فصار اغتيالهم حالة يومية معتادة، ولم تكشف التحقيقات أياً من الفاعلين، ما دفع من بقوا أحياء إلى الهجرة داخل العراق (النزوح)، ثم رحلوا إلى الخارج، بعد الانكشاف المستمر لمواقع سكناهم الجديدة، واستمرار ملاحقتهم وغياب الحماية.

بدأت الهجرة التالية مع تفاقم عمليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال في بعض المدن، وأولها مدينة الفلوجة التي نزح معظم سكانها مرتين في 2004، هرباً من قصف القوات الأميركية المنازل والمباني العامة، من دون تمييز بين مدني أعزل وآخر مقاوم، ودارت معركتان طاحنتان في المدينة، أديتا إلى تدمير أكثر من نصف بيوت المواطنين البالغة 70 ألفاً، وتدمير البنية التحتية للمدينة، ما جعل الحياة فيها شبه مستحيلة، وأدى هذا كله إلى هجرة نسبة كبيرة من الفلوجيين إلى الخارج، بينما هاجر آخرون مدناً أخرى، ظنوا أنها أكثر أمناً. وحصلت الأحداث نفسها لمدن أخرى عديدة، ما زاد في أعداد العراقيين الفارين من جحيم الموت المحدق بهم، في البيت والشارع ومكان العمل.

كانت السيارات المفخخة سبباً آخر، وقد ضربت بغداد وعموم مدن العراق، واستهدفت الأسواق والتجمعات السكانية المكتظة بالناس، وبشكل عشوائي رهيب، جعل العراقي يودع أهله، كلما خرج للتبضع أو العمل، وكأنه ذاهب إلى ساحة معركة.

ولم تقتصر الأسباب على القتل الجماعي، وإنما تعدته إلى الانهيار التام للخدمات، فالعراق صار يتصدر قوائم الدول الأسوأ في العالم، من حيث خدمات الصحة والبيئة والتعليم والثقافة والمواصلات والإسكان، وفقًا لاستبيانات الهيئات الأممية المتخصصة.

صارت فكرة اللجوء والنزوح تدور في رؤوس أغلبية العراقيين الساحقة، طلبًا للخلاص، فوقفوا بالطوابير الطويلة والمهينة على أبواب مكاتب الأمم المتحدة، بينما سلك بعضهم الطرق الملتوية، والهجرة غير المشروعة بوساطة مهربين، وبأجور قد تكلفهم بيع دورهم ومدخراتهم ومصوغات نسائهم، للظفر بلجوء في دولة أوروبية، أو جواز أميركي أو كندي أو أسترالي. ولقد توزعوا في انتظار حصولهم على اللجوء بين الأردن وسورية، والقليل منهم إلى تركيا ومصر ودول خليجية، وخصوصًا الإمارات وقطر، بينما استقر الحال بمعظمهم في هذه الدول، بسبب رفض معاملات لجوئهم للدول الغربية، أو تأخر الإجراءات سنوات طويلة.

وحصلت الطامة الكبرى في سنة 2014 التي شهدت صراعًا دمويًا بين قوات جيش وشرطة حكومة بغداد، ومن معها مما يسمى بالحشد الشعبي من جهة ومسلحين منتفضين على النظام في ست محافظات عراقية من الجهة الأخرى، وهو صراعٌ تطور دراماتيكيًا ليكون بين مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية والنظام المسنود بحملة عالمية، رايتها مكافحة الإرهاب. وما دامت الحملة تحمل هذه الراية، فهي مخولة بدك المدن بالطائرات والصواريخ، بل وحتى بالبراميل المتفجرة! وحين فقدت سلطات بغداد السيطرة على نحو نصف مساحة العراق، صبت غضبها على مدنيي ذلك النصف، بذريعة احتضانه (داعش)، وبعد أن قتل آلاف المدنيين، نساء ورجالاً وأطفالاً، حزم معظم الناجين أمرهم، وفروا إلى أماكن عديدة، لعل أهمها شمال العراق (إقليم كردستان).

ولا ننسى أن من النازحين منتسبين لقوى الأمن، ومعهم منتسبو الأحزاب والمجموعات السياسية الموالية للنظام، والمشاركة في العملية السياسية، فهم هدف لرصاص المسلحين المناهضين للنظام، وخصوصًا تنظيم الدولة الذي لا يرحمهم، إن وقعوا تحت سطوته.

تعددت الأسباب ولم يعد للعراقيين من وطن يؤويهم، وهم، اليوم، يتساءلون إن كانت هجرتهم ستطول، كما طالت هجرة إخوانهم الفلسطينيين قبلهم، فالقراءات الميدانية لا تبشر بحل قريب.

D169B6D2-B5D5-4997-93AB-AD2E563241D8
مكي نزال

شاعر وكاتب عراقي حاصل على شهادة الكفاءة العليا بالترجمة من جامعة نين في بريطانيا وممثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالعراق صدر له ديوانان شعريان، وكتابان حول "الفلوجة" و"فشل عراق ما بعد الاحتلال".