محمود عباس في متاهته

18 مارس 2015
+ الخط -

نطقها نتنياهو؛ لا مكان لحل الدولتين على أرض فلسطين التاريخية. لم يضف هذا الموقف، على الرغم من فجاجته، جديداً، باح نتنياهو بالحقيقة التي يدركها كل ذي عقل، وأكد بالقول ما سبق وأن أكدته الممارسة على الأرض.

ولم يتأخر رد منظمة التحرير الفلسطينية، حيث صرح كبير مفاوضيها، صائب عريقات، بأن "مسيرة نتنياهو خلال فترة حكمه تُثبت أنه، دائماً، كان يرفض أي حل دبلوماسي مع الفلسطينيين، الذي بدا جلياً في استمراره في الاحتلال وسياسته في التوسع في الاستيطان". كالعادة، حُصِرَت المشكلة في شخص نتنياهو، وكأن الاستمرار في الاحتلال، والتوسع في الاستيطان، لم يكونا سياسة ومنهجاً لكل من سبقه على سدة حكم دولة الاحتلال.

جاء تصريح نتنياهو ليعمق مأزق شريكه في "عملية السلام" المغدورة، الرئيس الفلسطيني محمود عباس. نبذ الأخير أي خيار غير خيار التفاوض، لم يعرف عنه مساندته الكفاح المسلح حتى حين كان العمل المقاوم في أوجه، وجَهَرَ بتأييده مفاوضة العدو في وقت كان يوسم فيه من يحمل هذا الرأي بالخيانة.

فعل أبو مازن كل شيء لإحياء المفاوضات، في البدء ربط عودتها بوقف الاستيطان (لا إنهاءه)، معتقداً أنه يحظى بغطاء أميركي، قبل أن يكتشف أن "المتغطي بالأميركان عريان"، على رأي المصريين. بعد ذلك، خفّض السقف إلى الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى المُتَفق عليها في مقابل عودة المفاوضات، حتى هذا الثمن البخس استكثره عليه نتنياهو. وها هو اليوم صاحب شعار "المفاوضات خيارنا الأول والثاني والثالث" عاطل عن التفاوض، للعام الرابع على التوالي. الزمن يمر، والأرض تُقضَم يومياً، والقدس تُهَوَّد، وخيار الدولة الفلسطينية يبتعد شيئاً فشيئاً، حتى بات يحتاج حلولاً كاريكاتورية، ليتواءم مع الواقع الذي فرضته وتفرضه إسرائيل على الأرض، هذا إن افترضنا أنه سيكون هناك في إسرائيل من يقبل وجود دولة فلسطينية مجاورة، حتى وإن كانت منزوعة السيادة.

أمام هذا الواقع المرير، وعوضاً عن الاعتراف بفشل خياره وفشله هو شخصياً، والتنحي جانباً مع فريقه البائس؛ كشف لنا عباس أنه على عكس ما نعتقد لا يعدم البدائل، وأن جعبته مليئة بالخيارات والمفاجآت التي سيعلن عنها إن استمر صلف نتنياهو وتعنته. وأخذ يخرج بدائله تباعاً من قبعته السحرية، بدءاً بـ"استحقاق أيلول" عام 2011، إلى دولة غير عضو في الأمم المتحدة، ثم الانضمام إلى المنظمات الدولية، وفي مقدمتها محكمة الجنايات، والدعوة إلى "المقاومة الشعبية"، في الوقت الذي تمنع أجهزة أمن السلطة فيه المتظاهرين من الاقتراب من الحواجز الإسرائيلية أو المستوطنات (ربما يفهم أبو مازن المقاومة الشعبية أنها الاعتصام أمام مقرات الأمم المتحدة والصليب الأحمر)، وأخيراً، التلويح بوقف التنسيق الأمني في مداولات المجلس المركزي، قبل أيام.

في البداية، لا بد من التأكيد على أن كل خطوة من الخطوات سالفة الذكر جيدة، لا بل ويجب الحض على المضي بها. لكن، في الوقت نفسه، لا يجب المغالاة في تقويمها وإعطائها وزناً نسبياً لا تستحقه، بل يجب أن توضع في موضعها الطبيعي، مسارات مساندة لمسار النضال الفلسطيني المركزي، والذي هو، بكل وضوح، مقاومة الشعب المحتل دولة الاحتلال، وكل ما يجري، الآن، هو محاولة لنقل ما هو على الهامش إلى المتن.

جميع الخطوات التي اتخذها محمود عباس بعد توقف المفاوضات، وتعاطى معها فريقه وإعلامه على أنها إنجازات مهمة، لا بل فتوحات؛ هي ليست أكثر من محاولة لذرِّ الرماد في العيون، والتغطية على الفشل الذريع لبرنامجه القائم على التفاوض خياراً وحيداً، ولمسار مدريد-أوسلو الكارثي.

أعوام من الفراغ والعطالة عن المفاوضات جعلت أبو مازن يتخبط بين خيارات ليست له، لا تشبهه، ولا تنسجم مع سياقه السياسي والأيديولوجي. لهذا سيفشل فيها جميعها، لأنه غير جدي في المضي بها إلى النهاية. (كيف لنا أن نصدق أن من قصَّر في متابعة القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي حول جدار الفصل العنصري، وهو قرار غاية في الأهمية، سيتابع بجدية ملف المحكمة الجنائية الدولية؟).

حتى قرار المجلس المركزي، أخيراً، بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال؛ جاء مُسبباً بعدم التزام حكومة إسرائيل بالاتفاقيات الموقعة بين الجانبين. وعلى الأغلب، سيتم التراجع عنه، بمجرد أن تعيد إسرائيل تحويل عائدات الضرائب إلى السلطة، ولو جزئياً، هذا إن افترضنا أن هناك نيّة لتطبيقه من الأساس، مع العلم أنه لم يحدد موعد اجتماع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، لمتابعة مقررات المجلس المركزي، بحسب معلومات توفرت للكاتب من داخل اللجنة.

بعد أكثر من عشرين عاماً على انطلاق "مسيرة السلام" المشؤومة، لم يعد في وسع الرئيس محمود عباس وقيادته الاستمرار في بيع الأوهام للناس. لم تعد المناورات والحركات الاستعراضية تؤتي أكلها مع الشعب الفلسطيني الذي سئم تجريب المُجَرّب، ويبدو هذا واضحاً من الفتور الذي استقبل به الشعب الخطوات التي قام بها أبو مازن أخيراً. (شتان بين احتفاء الشعب الفلسطيني، الصادق والعفوي، بإعلان الاستقلال في الجزائر 1988، واللامبالاة التي استقبل بها قبول عضوية فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة 2014).

لم يعد الشعب الفلسطيني، خصوصاً في الضفة الغربية، يُطيق صبراً على الواقع الحالي، والظروف باتت مهيأة لانفجار الأوضاع في الضفة، وهناك شواهد كثيرة، وحتى تقارير أمنية إسرائيلية تسربت إلى الإعلام تُفيد بذلك. وحين يحصل الانفجار الشعبي، سيكون موجهاً، بالتأكيد، ضد الاحتلال، لكنه سيجرف، في طريقه، ما تبقى من شرعية الرئيس التائه وقيادته.