حاشية على "عراك" البرلمان الجزائري

04 ديسمبر 2015

قبل العراك في جلسة البرلمان الجزائري (إنترنت)

+ الخط -
شد شعر، وفوضى عارمة، وضرب متبادل بلغ مداه، في أثناء تصويت البرلمان الجزائري على مشروع قانون المالية لسنة 2016. عراك قوي بين أحزاب المعارضة والموالاة، بثت تفاصيله القنوات التلفزيونية وشبكات التواصل محلية وعالمية.
يثير ما جرى، في آخر أيام شهر نوفمبر/تشرين الثاني، عدة ملاحظات، فما حدث بشأن قانون المالية، وخصوصاً ما تعلق منه برفع أسعار بعض المواد التموينية، وما تنص عليه المادة 66 بفتح رأسمال المؤسسات الاقتصادية للاستثمار الأجنبي، بنسبة 66% من مجموع الأسهم، هو تعبير عن إفلاس مؤسسات البرلمان الذي ألغت لجنته المالية المادة 66، وأعادها وزير المالية خلسة، فجرى التصويت على القانون في الجلسة العامة. ويعتبر ذلك في عرف أهل القانون تجاوزاً لصلاحيات اللجنة، وإقرارا لسياسة فرض ما تراه السلطة على النواب الذين تُتهم أغلبيتهم بالتزكية الدائمة لخطوات الحكومة، خصوصاً وأن الأغلبية بيد حزبي السلطة (جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي)، والتي يطعن كثيرون في نزاهة الانتخابات التي أوصلتها إلى قبة البرلمان. وفي الذاكرة ما حدث أيام الحملة الانتخابية البرلمانية في 2012، وما يجري، حالياً، من تحضيرات للانتخابات النصفية للغرفة الثانية في البرلمان، المسماة في الجزائر (مجلس الأمة)، والتي باتت تشهد سباقاً محموماً بين مترشحين، لا يوفرون جهداً ولا مالاً، في سبيل الحصول على فرصة اعتلاء كرسي النيابة، حيث تمتلئ صفحات الجرائد الجزائرية باتهامات واتهامات مضادة، بدخول مال فاسد على خط هذه الانتخابات، ويستشهد بعضهم بمبالغ خيالية، وأموال طائلة، تصرف لشراء أصوات الناخبين.
وعلى الرغم من تصويت بعض نواب جبهة التحرير الوطني ضد قانون المالية، إلا أن سيف "ديموقليس" سريعاً ما سلط على رقابهم، من خلال تصريحات نارية لرئيس كتلة الحزب في البرلمان، تتهمهم بالخيانة، وتتوعدهم بالحساب والطرد. فأعضاء حزبه، حسبما يرى، لا يحق لهم الخروج عن توجهاته وخياراته المتفق عليها من قيادة الحزب، وبذلك يقر بالانصياع التام لأوامر القيادة العليا، من دون مراعاة للعمل الديمقراطي، وما يفرضه من رأي ورأي آخر.
بالعودة إلى قصة شد الشعر، يلاحظ أن البرلمان لم يعد إلا لجنة للمصادقة على المشاريع القانونية للحكومة، وما حدث، منذ أيام، من تشنج وغضب في أوساط النواب، كان استثناءً، صنعته ظروف الاحتباس السياسي في الجزائر، ومنع التظاهر السلمي، وجريان العمل بقانون الطوارئ، على الرغم من توقيفه صورياً، عقب اندلاع انتفاضات الشارع العربي في 2011.
في الأثناء، تراهن المعارضة المغلوبة على أمرها على ما يعرف باجتماع فندق مزفران قبل عام ونصف، والذي لَمَّ شتاتها آنذاك، ولم تعرف استغلاله جيداً منذ ذلك الحين، لتبقى الاجتماعات بين نخب "قطب التغيير وتنسيقية الانتقال الديمقراطي" مجرد اجترار لمواقف سابقة، تتهم الحكومة والموالاة بالاستفراد بكل القرارات المصيرية في البلاد. في الجهة المقابلة، تطارد اتهامات محاولة جر البلاد إلى (مستنقع) الفوضى أحزاب المعارضة. ويبقى ذلك سيفاً مسلطاً في وجهها، ترفعه أحزاب الموالاة والسلطة التي تمنع عنها أي تجمع أو تظاهرة.
شكلت رئيسة حزب العمال، لويزة حنون، صداعاً مزمناً للأمين العام لجبهة التحرير الوطني، عمار سعداني، والذي يتهمها بتصدر حزبها الحركة الاحتجاجية داخل قبة البرلمان، على الرغم من مشاركة كتل أحزاب أخرى، ومناضلات من جبهة التحرير نفسها في الاحتجاج. وقد ذاع صيت سعداني بعد هجمته المباغتة، منذ أكثر من عام، على رئيس المخابرات يومها، توفيق مدين، والذي أُقيل في سبتمبر/أيلول الماضي، وإعادة تنظيم أمور جهاز المخابرات من بعده. وقد اتهم سعداني حنون بلعب دور المخبر و"الجاسوسة" لدى "عرّابها" (يقصد توفيق مدير المخابرات السابق) الذي أنشأ حزبها ومنحها مقراً له، وكلفها، بحسب سعداني دائماً، في بداية التسعينيات بالتقرب من "الفيس" المنحل (الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، والتجسس عليها، وعلى أحزاب أخرى، مثل جبهة التحرير بقيادة عبد الحميد مهري يومها، وجبهة القوى الاشتراكية بقيادة الزعيم التاريخي لثورة التحرير حسين آيت أحمد. ولم يوفر سعداني أي كلام وأي سلاح في اتهاماته حنون، والتي وصلت به إلى حد وصمها بـ "الكافرة والملحدة".

لا تهمنا، في هذا الصدد، الاتهامات الموجهة لقناعات حنون ومبادئها الشخصية، ولكن، يهمنا المستوى الذي وصل إليه الأداء السياسي في الجزائر، وانحدار الخطاب الحزبي إلى مستويات دنيا من الأداء، فرئيس أكبر حزب، بحسب الانتخابات التي تنظمها السلطة، منذ توقيف المسار الانتخابي في 1991 يتحدث من موقف قوة لا تهمه معها آراء الأحزاب الأخرى، أو المعارضة، فهو لا يرى في المشهد إلا حزبا آخر معه (التجمع الوطني الديمقراطي)، والذي أنشأته السلطة في منتصف التسعينيات، وولد بشاربين، كما يحلو للشارع العام أن يسخر منه. عندها، تنتفي صلاحية التيارات الأخرى لدى السلطة، ويتكلم ناطقها الشرس بلغة التحدي وبمبدأ "لا أريكم إلا ما أرى"، ليصبح عندها باب السياسة محكم الإغلاق، ويغدو الحديث عن التعددية السياسية مجرد لهو، ويمسي الحديث عن الإصلاحات مجرد عبث إعلامي، غايته إلهاء الرأي العام.
في خضم هجمته على لويزة حنون، اتهم الأمين العام لجبهة التحرير المخابرات بصناعة حزبها (العمال)، لكنه نسي، أو تناسى، من قام بتصميم الانقلاب على قيادة عبد الحميد مهري جبهة التحرير في بداية التسعينيات، والتي كانت بدأت تسترجع استقلاليتها عن السلطة. وتناسى من أنشأ حزب التجمع الوطني الديمقراطي، رديفه في السلطة، وإن اعترف ضمناً بمن فبرك الانتخابات المتتالية منذ 1991، ومن سهر على تزويرها وتجييرها أحزاباً تسبح وتحمد باسم السلطة القائمة ليل نهار. يثبت ما اعترف به سعداني عند قصفه لويزة حنون، إذن، أن كل الانتخابات التي جرت في الجزائر منذ التسعينيات مزورة، وأن جل الأحزاب مصطنعة من المخابرات، ما يعني أن المشهد السياسي في الجزائر لا يستند لأي شرعية. وإذا أضفنا إليه المشهد الإعلامي المتردي، نكون أمام تركيبة هجينة من الاختراقات، أنتجت رداءة متفشية على كل المستويات.
كل هذا يعرفه الصغير قبل الكبير في الجزائر، ويقر به أهل الإدارة في الدوائر الضيقة والمجالس الخاصة. والذين لم يرف لهم جفن، لا تأثراً بالظروف الاجتماعية للمواطن الجزائري، ولا بسوء التسيير الذي ضرب أطنابه في مشاريع التنمية التي استهلكت أضعاف ما كان مقرراً لها، ولم تحقق النتائج المرجوة منها، ولا بالمحاكمات التي طاولت رموزاً في السلطة، بفعل فساد مالي. لم تحرك كل هذه الظروف مجتمعة ساكناً في سلطةٍ، حاولت شراء السلم الاجتماعي سنوات طويلة، لكن الظروف المالية التي فرضها تدهور أسعار النفط غيرت معطيات المعادلة، وما كان إلى يوم قريب "بحبوحة مالية"، تغنت به السلطة أعواماً، تحول إلى هاجس مالي، نبه إليه العارفون بخبايا الاقتصاد باكراً، ولم يلتفت إليهم أحد. والخوف كله اليوم من انتقال عدوى ما جرى تحت قبة البرلمان إلى انفلاتٍ في الشارع، لا تحمد عقباه.

خليل بن الدين
خليل بن الدين
إعلامي جزائري، من مواليد 1962، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً في قناة الجزيرة.