رقم آخر يطوى

19 ديسمبر 2015
+ الخط -
من السهل جداً إلقاء العتب واللوم على السنة الغرائبية العجيبة التي تتأهب أيامها للمغادرة غير مأسوف عليها. ومن الطبيعي، والمتوقع، تحميلها وزر إخفاقاتنا وخيباتنا وقلة حظنا، باعتبارها سنة مشؤومة كبيسة ضاغطة (أرخت سدولها علينا بأنواع الهموم فابتلت ولم تنجل!)، وحفلت بأحداث مأساوية دامية، أودت بأرواح بريئة حصدتها، ولم تزل ماكينة الظلم والعدوان برعاية دول عظمى، كما حملت، في ثناياها، خساراتٍ جمّة، ففقد بعض الأحبة أعزاء على قلوبهم، واختبر بعضنا خساراتٍ جمة على صعد مختلفة.
انطلاقا من هذه المقدمة غير المشرقة بأي حال، النتيجة الوحيدة التي قد تجمع الأغلبية عليها أن هذه السنة غير الرحيمة على أي صعيد مطلوب رأسها ميتاً أو ميتا! من أناس كثر يصنفون أنفسهم من الفئات المتضررة التي تستحق التعويض والعزاء والسلوى، جرّاء ما مر بها من أحداث جسام، أصابت بعضهم في مقتل.
وليس غريباً أن يعبر هؤلاء عن ارتياح بالغ، لانقضاء أيامها البائسة الثقيلة التي اكتظت بالخيبات على اختلاف مسبباتها، ومثلما جرت العادة، وفي أيامها الأخيرة، يشن عليها قاطنو هذه الكرة الهوجاء، بتباين مستوياتهم المعيشية واختلاف مرجعياتهم الثقافية، هجمة شرسة لا تخلو من حقد وضغينة، واصفين إياها بأقبح الصفات، موجهين إليها أقذع الشتائم، متنافسين في هجائها، واضعين على عاتقها حمولات هائلة من الغضب، باعتبارها من أصعب السنوات التي شهدت كوارث وأحداثاً دموية في معظم بقاع الأرض، يرونها قاحلة جرداء، ليس بالمعنى الزراعي على أية حال، مرّت عليهم بلا هوادة.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، وربما بسببه، يقدم المقتدر منهم على الاحتفال الباذخ، وعلى إبداء أقصى درجات البهجة مجهولة الأسباب، وغير المنسجمة مع الضائقة المالية الراهنة، المطروحة رسمياً وشعبياً.
الطريف أن أغلبيتنا، وعلى الرغم من ادعائهم درجة من العقلانية والتفكير المنطقي، يحرصون على معرفة طالعهم للسنة المقبلة، ويشعرون بطمأنينة وارتياح، حين تؤكد لهم (ماغي فرح مثلا) أن النجوم تعدهم بانفراج قريب، فيأخذون الأمر على محمل الجد، ويرسمون الخطط لسنتهم المقبلة على أساسه.
ويتألق، في هذا الوقت بالذات، نجوم الفلك الأدعياء الذين تحقق أرباح كتبهم، المنسوخة المتكررة سنة إثر سنة، أرقاماً فلكية، ويكتسحون شاشات الفضائيات بكثافة منقطعة النظير، ويحشدونها بهذيانات و"خرابيط" لها فعل المسكنات والمهدئات وحبوب الهلوسة التي تجعل الأوهام والأماني المرتجاة واقعاً معاشاً، ولكن إلى حين. فما أن يتلاشى تأثير تلك المسكنات، حتى تهبط الروح إلى أسفل درك، حين تتكشف عناصر جريمة الاحتيال وخديعة الفرح والنجاح المهني والاجتماعي والحب الجديد الذي سيطرق باب القلب، وتحقق المكاسب والأرباح، لنبدأ بعدها توجيه اللوم إلى ظروف السنة المقبلة، وملابساتها ومصادفاتها، كذلك التي لن تأتي بجديد أيضاً.
وإذا ما استثنينا الكوارث الطبيعية التي تحصد الأرواح بالجملة وبالمفرق أحياناً، وكذلك حالات الموت الحتمية التي يحتمها دنو الأجل، بمشيئة سماوية، فإن كل ما يحدث للأوطان من منجزات وإخفاقات، وكل ما يحدث لنا على مستوى خاص من أفراح وأحزان، هو نتيجة حتمية لما اقترفت أيدينا من سلوكيات، وما تفتق عن أرواحنا من أوهام وأحلام، واحتيالات ومحاولات وأشواق، وشغف واقتراحات من أجل التحليق في فضاءات أكثر اتساعا ورحابة.
وحيث امتلكنا الجرأة والإرادة على التقدم خطوة نحو مصير، نظن أنه لا بد أن نتحلى بالشجاعة والفروسية، لمواجهة الذات في عقر وعيها، حتى لو استنفدتها الأيام، وكانت مواجهة شجاعة ضرورية، لا بد منها، وهي، بالتأكيد، أكثر جدوى من مجرد إلقاء اللوم على تقويم زمني عابر، ما هو إلا رقم آخر يطوى، لعلها تحفز الروح على الأمل، وتشحن فيها الطاقة، كي تجتث كل ما يؤثر على النفس غير المطمئنة من خرافات ودجل، وتختلس بصيصاً من فرح في حضرة عام آتٍ، يبعث حضوره المتشح بالغموض رجفة توجس، وثروة من الدهشة أمام الأشياء، ومقدرة لا تحد على التوق، فيما عداد العمر يتأهب ثانية لقفزة، عسى أن تكون نحو سنة أقل مدعاةً للأسى.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.