لجنة تنمية الضمير.. فنكوش السيسي الجديد

28 نوفمبر 2015
+ الخط -

في ظروف أخرى، كان يمكن لفنكوش السيسي الجديد المُسمّى "لجنة تنمية الضمير" أن يعيش طويلاً، فأغلب المولعين بتأييده يحبون الكلام عن الأخلاق والعيب والضمير والأصول، والـ "ما يصحش كده"، أكثر من حبهم أي كلام عن طلب الحقوق وإقامة العدل ومحاسبة الظالم ومراقبة المسؤولين، لكن الرياح ليست مواتية الآن لأي نوع من الفناكيش والنصبايات، لا ينتج عنه تحسن ملموس في أحوال البلد المتردية التي جعلت معيشة الناس أسود من قرن الخرّوب، و"خُلقهم" أضيق من سُمّ الخياط.

قالت لنا الأخبار إن الفنكوش الجديد من اختراع بعض أعضاء "مجلس علماء وخبراء مصر"، ذلك الكيان الفخيم الهلامي الذي سبقته إلى الموت الإكلينيكي مئات الكيانات الفخيمة الهلامية، ذات الأسماء البراقة والروح الفاطسة، والتي تتشكل عضويتها من خليط غير متجانس من البشر، بعضهم يبحث عن فرصة للحس الأعتاب، وبعضهم يبحث عن فرصةٍ لخدمة الوطن، وبعضهم يبحث عن وسيلةٍ لقضاء وقت الفراغ. وفي كل مرةٍ، يفرح بهذه الكيانات الفخيمة كثيرون من (هواة جمع بصيص الأمل)، قبل أن يدرك العقلاء منهم، بالتجربة، أنه حين تكون محكوماً بمن يقودك إلى الهاوية، فلن يفيدك كثيراً تطوير موديل السيارة التي ستستقلها إلى قعر الهاوية، وأن إنكارك ومقاوحتك في أن من يحكمك متجه بك إلى قعر الهاوية قد يؤخر وصولك إليها، لكنه لن يمنعه، لسبب أدركه البشر منذ قديم الأزل، هو: أن ما بُني على باطل سيقود حتما إلى باطل، والأجدى والأبدى منع من يقودك إلى الهاوية، من مواصلة البقاء على مقعد القيادة.

ليست الأسماء المشاركة في صناعة الفنكوش الجديد أقلَّ لمعاناً، ولا أدنى قيمة، من أسماء فخيمة شاركت في صنع فناكيش سابقة في عهود سابقة، فمنذ ابتليت هذه البلاد بحكم المستبد الذي يراه شركاؤه في الظلم عادلاً، ونحن نرى كل مستبد من هؤلاء، نبيهاً كان أم "مديوكر"، وهو يحرص على إحاطة نفسه ببعض الأسماء التي تحظى بالمعرفة والخبرة، وأحياناً بالنزاهة. وفي كل مرةٍ، يبدو أن التفاف تلك الأسماء سيكون الحل السحري الأكيد لحل مشكلات مصر، قبل أن يتمخض جبل الدولة ليلد هزيمةً جديدة وفشلاً متجدداً، لكن معرفتك بتلك الحقيقة القديمة لن تقلل من حزنك المستجد، وأنت ترى كيف تتورّط في الأمر هذه المرة، أسماء نحبها ونحترمها، جعلتها هستيريا الخوف على مستقبل البلد تظن أن مساندة قاتلٍ عديم الخيال والكفاءة، يمكن أن تكون حلاً مؤقتاً، حتى لا تنزلق البلاد إلى الفوضى، وهو ما سبق أن قام به في بلاد أخرى، من لا يقلون عنهم شرفاً ولا كفاءة، حين ظنوا أن الطغيان سيحمي بلادهم من الفوضى، فصنع الطغيان فوضى عارمة، لا يعلم إلا الله كيف ستتم السيطرة عليها.

حين ترى الأسماء التي تورّطت في دعم فنكوش لجنة تنمية الضمير وتأييده، لا أظنك ستلوم على البسطاء والغلابة تشوشهم ولخبطتهم وتصديقهم الأكاذيب، بعد أن رأيت، بعينيك، كباراً أنفقوا أعمارهم في المعرفة والنضال والخدمة العامة والالتصاق بهموم الناس، ومع ذلك، يقامرون بتاريخهم كله، حين يعتقدون أن الحاكم المسؤول سياسيا عن نظام تورّط في أشنع عمليات القتل الجماعي وحملات الاعتقالات والاختفاءات القسرية ووقائع التعذيب واستباحة الأعراض والذمم، عبر وسائل الإعلام المنحطة، يمكن حقاً أن يقوم بتنمية الضمير والارتقاء بالأخلاق، ولا تقل لي إنهم لم يسمعوا عن وقائع القتل والقمع، فقد انتقل حتى أرخص منافقي النظام وأحطهم قدراً، من مرحلة الإنكار إلى مرحلة الاعتراف بوقائع القمع المخزية، ليتبجح بعضهم بأنها ضرورية لحماية البلاد، ولم نعد، كما كان الحال قبل أشهر، نرى كثيرين يردّدون، بحماس بالغ، أكاذيب تزعم أن ما يجري لا علاقة له برجل البر والتقوى، عبد الفتاح السيسي، الذي يرتدي النظارة السوداء، ليداري دموعه على الفقراء، ويسهر الليل مرتدياً مئزراً من شوك، وهو ينظر إلى السلطة باكياً، ويقول لها "غّرّي غيري غُرّي غيري".

في أيام أقل سواداً من هذه، كنت سأتقبل فهمك لي خطأً، فتظن أنني أزايد على قاماتٍ شامخة، وأحمّلها فوق طاقتها، فأطلب منها، مثلا، أن تقول كلمة حق في وجه رئيس جائر، وتحدثه، مثلاً، عن الأحوال المزرية لآلاف المعتقلين الذين يلقى بعضهم حتفه من التعذيب، وتُمنع عن بعضهم الأدوية، وتتعرّض أسرهم ومحاموهم للتكدير والمضايقة، ويبيت محبوهم، كل ليلةٍ، في غم مقيم، (طبقا لتقارير مركز النديم الموثقة، شهدت أقسام الشرطة والسجون المصرية من يونيو/حزيران إلى أكتوبر/تشرين أول الماضي: 232 حالة تعذيب، 13 حالة وفاة بسبب التعذيب، 52 حالة وفاة بسبب الإهمال الطبي).

لا، لا سمح الله، لست غبياً لأتوقع من علماء كبار أن يشغلوا أنفسهم بهموم عادية مثل هذه، خصوصاً وهم في حضرة رجل ينوء بأثقال المؤامرات الكونية، ويمكن لتفاصيل مثل هذه أن تزعجه، وتشتت تركيزه. صدقني، كنت فقط أريد منهم أن يتحدّثوا بشكل علمي بحت، ليقولوا له إنهم حاولوا الاستجابة لنداءاته المتكرّرة للعلماء والمثقفين، بالسعي إلى حل أزمات تردّي الأخلاق وانعدام الضمير، فبحثوا في كتب التاريخ والاجتماع والسياسة مليّا، ليجدوا أن حل هذه الأزمات كان يبدأ دائماً من رأس السلطة، وأن الناس، في الغالب الأعم، كانوا على دين ملوكهم، فحين يحكمهم حاكم يطبق شريعة الغاب، ويطلق العنان لعديمي الضمير والأخلاق من القضاة والضباط والإعلاميين، ويسبغ عليهم حمايته وتدليله، يُخرج عامة الناس أسوأ ما فيهم، ويتحوّل كل منهم إلى جلاد حقير صغير، يستبد بمن حوله، ويسومهم سوء العذاب، ويعيث في الأرض المحيطة به فسادا.

لم أكن لأطلب من هؤلاء العلماء أن يحترموا أنفسهم وتاريخهم، فيواجهوا الرئيس، ولو بعيداً عن وسائل الإعلام، بنماذج مؤلمة وموثقة، لأسر دمرتها أفعال رجال نظامه، ولشباب في عمر الزهور، يعطيهم كل يوم بدل السبب مائة سبب، ليتحولوا إلى قنابل انتقام موقوتة. كنت فقط أريد منهم أن يحترموا العلم الذي أفنوا أعمارهم في خدمته، فيخبروا السيسي بما تمتلئ به كتب التاريخ، من نماذج صارخة لحكام كانوا أشطر منه بكثير، ومع ذلك، فشلوا فشلاً ذريعا، حين نصّب كل منهم نفسه أباً للشعب، ونسي أنه يعمل في خدمته، فحاول أن يتدخل في أخلاقهم وسلوكياتهم وعقائدهم، فلم يقده ذلك إلا إلى فشل ذريع، أطاح ما سبق له أن أنجزه، قبل أن يطيح رأسه بعد ذلك، فكيف الحال بمن لم ينجز أصلاً شيئاً مما وعد به، ولم ينتقل، حتى الآن، من نقرة إلى دحديرة.

وإذا كان وقت جلسة كبار العلماء أضيق من أن يعودوا بكبيرهم إلى أزمنة مختلفة، فيروون له طرفاً من أخبار كاليجولا وأغسطس والحاكم بأمر الله وفرانكو وهتلر وموسوليني، كان يكفي أن يذكّروه بمصير أحد الرجال الذي يجلس الآن على كرسيه، أدخل إلى الحياة السياسية المصرية، عجائب مثل قانون العيب وأخلاق القرية ومحكمة القيم، فلم يغير ذلك في حياة الناس شيئاً، سوى تحفيز قدرتهم على العبث والمسخرة، وينبهوه إلى أن الناس لا ينتظرون من الحاكم أن يعلمهم الأخلاق، بل أن يريهم تمسكه بالعدل، ومحاربته الفساد، واحترامه القانون، وإلا أصبح مصير خطبه وتصريحاته مثل مصير خطب الجمعة وعظات الكنيسة التي، إذا وجدت من يستمع إليها، أو لا ينام خلال إلقائها، فإنها لا تبقى معه أكثر من زمن إلقائها، بل إنها غالباً تموت فور خروجها من فم من يتفوه بها، وقبل أن تصل إلى أذن من يفترض به سماعها.

كان ممكناً إذا لم يمتلكوا شجاعة النطق بهذه الحقائق العلمية في وجه السيسي، أن يتركوا له كتاباً سبق أن صدر عن مؤسسة رسمية، هي المجلس الأعلى للثقافة سنة 2001، يحمل عنوان (الأخلاق والسياسة.. دراسة في فلسفة الحكم)، كتبه المفكر والفيلسوف المصري، الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، مستكملاً به مسيرته العلمية في رصد أفعال (الطاغية) وعواقب الاستبداد الوخيمة عبر التاريخ، لينبهنا، في كتابه هذا، إلى خطورة الابتهاج بالنظام السياسي الذي يسعى إلى فرض مفاهيم أخلاقية، لأن الواقع يثبت، دائماً، أن ذلك النوع من الحكم يتحول إلى كارثة بكل المقاييس، تعم على جميع المواطنين، بما فيهم الذين يهللون لفرض الأخلاق بالقوة، لأن ما يجب أن يحكم الدولة دائماً هو القانون، وليس الأخلاق، "فالمفاهيم الأخلاقية ذاتية وفضفاضة، وهي ما لم تتحول إلى قوانين سياسية مستقرة، هي التي تحكم المجتمع، فسوف تستخدمها إرادة الفرد، وتفرغها من مضمونها"، وحين يقتل الحاكم الحرية، يقتل، في الوقت نفسه، الإحساس بالمسؤولية، ويصبح الفعل المتعمد وغير المتعمد سواءً.

وعبر استقراء وتأمل وقائع التاريخ، منذ قديم الأزل وحتى سنوات قريبة خلت، ينبهنا الدكتور إمام إلى أنه حين تغيب الحرية، لا يمكن لأي عاقل أن ينتظر وجود أخلاق حقيقية في المجتمع، لأن "الفعل الأخلاقي هو ما ينبع من داخل الفرد، من شعوره الباطني وإحساسه بالواجب"، وهذا الوعي الأخلاقي هو الذي يبقى، حتى لو امتنع العقاب الخارجي، "لأن الوعي الأخلاقي يتطلب الشعور بالواجب والإحساس بالذات الحرّة، وهو أمر ينعدم في المجتمعات التي تدمج الفرد مع غيره، أو مع الحاكم. ومن هنا، لا تكون التفرقة كبيرة بين الحرية والعبودية، لأن الجميع متساوون في المهانة أمام الحاكم، وبما أن الكرامة لا وجود لها بينهم، فليس للشخص حقوق فردية، يتميز بها، وما أسهل أن يتحول هذا الشعور إلى الإحساس بالضعة والانحطاط. وهكذا تكمن اللا أخلاقية وراء القناع الأخلاقي الزائف، وهو زائفٌ، لأن مصدره الخارج، لا الداخل: الخوف من العقاب، لا الإحساس بالواجب".  

وكم كان أولى بمن نصّبوا أنفسهم متحدثين باسم العلم، وحراساً على الضمير والأخلاق، أن يبدأوا بتنمية ضمائرهم، ليقولوا للسيسي كلاماً علمياً مثل هذا، لا يمكن اعتباره اكتشافاً جديداً، فقد صار معلوماً، بالضرورة، لكل من درس تاريخ الأمم، وتأمل سنن الكون، وأدرك كيف تنهض الدول وكيف تنحط، لكن ذلك لم يكن ممكن الحدوث، ليس لأن هؤلاء لا يتمتعون بالكفاءة العلمية، أو لأنهم يجهلون حقائق التاريخ، بل لأنهم اختاروا العبودية، حين تواطأوا مع قتلة الحرية، فأصبحوا، بمحض إرادتهم، مجرد قطع متناهية الصغر في القناع الأخلاقي الزائف، الذي يرتديه عبد الفتاح السيسي، ونظامه ومؤيدوه، وهو قناع لن يكون سقوطه الكامل مبهجاً ولا سهلا، لكنه سيكون حتمياً، ليس لأن هذه رغبات معارضيه، أو أحلام كارهيه، نبلاء كانوا أم منحطين، مخلصين كانوا أم طامعين، بل لأن التفكير العلمي يقول لنا، ببساطة، إن ما بني على باطل يقود إلى باطل، وإن "التغيير على وساخة" لا يمكن أن ينتج عنه إلا المزيد من التسلخات. 

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.