مفاوضات سد النهضة وتباعد المواقف السياسية

28 نوفمبر 2015

البشير والسيسي ورئيس وزراء إثيوبيا يوقعون إعلان مبادي (مارس/2015/Getty)

+ الخط -
مع تعثر المفاوضات الفنية بشأن سد النهضة في إثيوبيا، اتجهت مصر إلى عقد اجتماع لوزراء الخارجية والري في مصر وإثيوبيا والسودان، قبل انعقاد الاجتماع العاشر للجنة الثلاثية. وتبرز، هنا، واحدة من المعضلات تكمن في الحلقة المفرغة للدراسات الفنية، وضوابط عمل المكاتب الاستشارية وقبول الدول مقترحاتها. وقد شكل اجتماع "اللجنة الوطنية لسد النهضة الإثيوبي" في القاهرة، يومي 7 و8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، نقطة حاسمة في تقييم المسار الفني للمفاوضات، فقد كشف عن معضلة الجدوى من استمرار انعقاد الاجتماعات الفنية، فيما يتسارع بناء السد، من دون ضمانات واضحة بالتزام إثيوبيا بأي اتفاقٍ يمكن التوصل إليه. 
ولعل الملاحظة الأساسية كانت في أن تكرار اجتماعات اللجنة ظل من دون إطار واضح لمعايير التفاوض حول تخزين المياه أو تصريفها. وإزاء الغموض في مسار المفاوضات، أعلنت وزارة الري المصرية تأجيل الاجتماع العاشر أسبوعاً ليكون في نهاية نوفمبر الجاري.
ومع غموض مسار التفاوض، سعت مصر إلى معالجة المشكلات التي واجهت الخبراء، حيث اقترحت، في مايو/أيار 2015، عدم انفراد جهة استشارية واحدة، بحيث تكون الاجتماعات، بحضور المكتبين الاستشاريين، الفرنسي "بي. أر.أل" والهولندي "دلتارس"، لكن هذه التحوطات كانت قليلة الفائدة، فقد أعلنت إثيوبيا، بعد انتهاء الاجتماع التاسع من دون نتائج واضحة، عن إنجاز 47% من تشييد السد، ما يعكس تفكك عملية التفاوض، وغياب إطار يمثل مظلة شاملة، تتناول كل ما يرتبط بتوزيع المياه في النيل الأزرق وسياسات التخزين. وقد ظهر التفكك في اختلاف أهداف مصر وإثيوبيا، أو تعارضها، من المفاوضات، فبينما تركز مصر على مناقشة سياسة التخزين، من دون التطرق لتقسيم حصص المياه، تتطلع إثيوبيا إلى فتح مسألة تقاسم المياه، وعدم الاعتداد بفكرة الحقوق التاريخية التي تتمسك بها مصر، وعلى الرغم من إثارة هذه النقطة في الجولة الأخيرة، فإنها شكلت الموضوع الرئيسي للمفاوضات الجماعية حول حوض النيل، والتي انتهت إلى ظهور الاتفاق الإطاري (عنتيبي)، ما ترتبت عليه تحديات إضافية أمام السياسة المصرية، حيث انخفضت أهمية فكرة الحقوق التاريخية، ما يفتح أطراً لتفاوض لوضع قواعد جديدة لإدارة الموارد المائية على توافق أغلبية دول الحوض، وليس الإجماع شرطاً ضرورياً.
لعل المشكلة تكمن في طبيعة اتفاق "إعلان مبادئ وثيقة سد النهضة" في 23 مارس/آذار
2015، حيث لا يرتب التزامات متبادلة، على الرغم من النص على مبادئ التفاهم المشترك، واحترام مصالح كل طرف، فلم يربط الاتفاق بين أداء لجنة الخبراء وتقدم الإنشاءات في سد النهضة، ما فتح فرصة لتجاوز الحدود الدنيا للضمانات الفنية أو السياسية، سواء في ما يتعلق بالنص على أن الغرض من بناء السد في توليد الطاقة، كما تضمن توفير المعلومات اللازمة لإجراء الدراسات المشتركة للجنة الخبراء، ويتم الانتهاء من تنفيذ الالتزمات المشتركة في 15 شهراً، منذ بداية إعداد الدراستين الموصى بهما من لجنة الخبراء، وفيما اقتصر على احترام توصيات لجنة الخبراء وتنفيذها، لم يكن هناك نص واضح، يلزم إثيوبيا بوقف الإنشاءات، حتى الانتهاء من الدراسات الفنية.
ويعكس تصريح وزير الخارجية المصري، سامح شكري، عن وجود أدوات ضغط كثيرة لحفاظ مصر على حقوقها المائية، عدم جدوى الاستمرار في المسار الفني، وهناك تفسير يذهب إلى أن مصر تتجه إلى التمسك بالحقوق التاريخية ملاذاً أخيراً، ولم يكن يعني اللجوء إلى الحرب، حلاً للنزاع حول التعامل مع سد النهضة وتداعياته، وهو ينصب، أساساً، على استخدام بدائل دبلوماسية.
وهنا، يمكن النظر لتصريح وزير الخارجية الإثيوبي، تيدروس أدهانوم، أخيراً، عن عدم قدرة مصر على الدخول في حربٍ مع بلاده، على أنه يتماثل مع تصريحات رئيس الوزراء السابق، ميلس زيناوي، في مايو/أيار 2010، وتحدّى فيها شن حرب ضد بلاده، ما يعكس وجود استراتيجية لدى إثيوبيا في توسيع علاقاتها الإفريقية، وقد شكلت هذه الأزمات الإطار السياسي للبدء بمشروع سد النهضة في أبريل/نيسان 2011، بتشكيل لجنة إثيوبية، لوضع خطط إنشائه. وكانت المواقف الإثيوبية منذ 2010 بمثابة مناظرة ومواجهة مع السياسة المصرية، وكانت رداً على تصريحات وزيري الخارجية، سواء بالتهديد بالحرب في 2010، أو بالتصريح بوجود أوراق ضغط وسياسات بديلة في 2015، وعلى الرغم من الفارق الزمني، لم يتضح وجود خطة واضحة السياسة المصرية تجاه مشاريع التخزين الإثيوبية، وكان القاسم المشترك، في هذه السنوات، متمثلاً في إعلان مواقف جزئية، لا ترقى إلى التحديات التي تمثلها مخاطر تغير النظام الهيدروليكي لنهر النيل، وانكشاف المخزون المائي في مصر.
تعكس هذه السياقات حالة القلق، أو التربص، بين البلدين، وتكشف عن انسداد أفق التفاوض، كما أن توجهات كل منهما تعكس تفاوت سياسات التعامل أو اختلافها، مع ملف استراتيجي وحيوي، فبينما تعمل إثيوبيا على المستويين، السياسي والفني، فقد ركزت مصر على أن حل المسائل الفنية أو تسويتها سوف تؤدي إلى تفاهم سياسي حول إدارة المياه في "النيل الأزرق"، وهو ما يعد وضعاً معكوساً للتعامل في العلاقات الدولية، حيث يعد التوافق على الإطار السياسي شرطاً لازماً ومظلة للمفاوضات الفنية. وهنا، كان من الضروري التفاهم حول مسائل عديدة، منها، الانتهاء من تحديد الموقف من إطار"عنتيبي" و"الحقوق التاريخية"، وسياسات التعاون الإقليمي، بعد الانتهاء من بناء السد، فتجنب الخوض في هذه القضايا سوف يظل قيداً على أي مفاوضات ترتبط بأي مشروع على نهر النيل، تتعدى آثاره إلى دول أخرى.
يأتي سعي مصر إلى الجمع بين المسارين؛ السياسي والفني، في سياق تسارع الأزمات السياسية مع السودان وإثيوبيا. وبغض النظر عن المشكلات الثنائية وأسبابها، فإن انعكاسها على مفاوضات سد النهضة سوف يكون سلبياً، خصوصاً في ظل توافق السودان وإثيوبيا على أهمية مشاريع إنتاج الطاقة والتنمية وعدم تأثرها بتخزين المياه. وهنا، يشكل التلاقي السوداني ـ الإثيوبي تغيراً في العلاقات السياسية، يختلف عن الأوضاع في 1959، ما يضع قيوداً على تمسك مصر بالحقوق المتكسبة تاريخياً، حيث صار ترتيب الإطار السياسي والقانوني للنيل الأزرق قريباً من تجاوز الاتفاقات السابقة، بما فيها إطار الأمم المتحدة (1997)، ما يرجع إلى توسع إثيوبيا في مشروعات الطاقة، لأغراض التنمية الاقتصادية والتجارة الإقليمية.
وبينما ترى مصر أن مشروع سد النهضة يهدد الحاجات المائية، كان موقف السودان على خلاف ذلك، فقد ارتكز على أن إنشاء السد يعود بالنفع، ومنذ يونيو/حزيران 2013، لتزايد تقارب السودان مع إثيوبيا، بسبب ما اعتبرته ظهوراً للاتجاهات العدائية، والتهديد باستخدام القوة من مصر، ما أثار الصورة الذهنية السلبية عن الخلافات العربية ـ الإفريقية.

في الوقت الراهن، تواجه مصر تحدّي التكيف مع تسارع التغيرات السياسية والهيدروليكية التي تحدث على نهر النيل، ويمكن فهم هذه الأزمة بتناول تطور الأوضاع السياسية للنهر، حيث تبدو ثمة علاقة بين التغيّر في الأوضاع السياسية وتغير الوضع القانوني، وشهدت هذه التغيرات ثلاث اتفاقيات، في 1902 و1929، وإلى حد ما الاتفاقية بين مصر والسودان في 1959، وقد ارتبطت الأولى بالتطورات المتعلقة بالحكم المصري – البريطاني للسودان وفق اتفاقية 1899. وجاءت الثانية تعبيراً عن التغيرات السياسية، كان أهمها حصول مصر على الاستقلال في 1922 وثورة أكتوبر 1924 في السودان، وهو ما أصبح يمهد لمرحلة جديدة في الخريطة السياسية الإقليمية، حيث اتجهت السياسة البريطانية إلى تطوير فكرة الحدود السياسية والثقافية بين العرب والأفارقة، ففي النصف الثاني من عشرينات القرن الماضي، أنشأت ما تعرف المناطق المقفلة في جنوب السودان، كما أن اتفاقية 1959 هي نتيجة لتداعيات استقلال السودان في يناير/كانون الثاني في العام نفسه. ووفق هذا المنظور، يضيف ظهور دولة "جنوب السودان" متغيراً جديداً في العلاقات السياسية بين دول الحوض، ما يدعم الاتفاق الإطاري في عنتيبي (2010)، ليكون المظلة القانونية الجديدة.
لا تبدو التحديات سهلةً أمام السياسة المصرية، فهناك تشابك في المصالح الخليجية والإفريقية مع إثيوبيا والسودان، ويرجع هذا التشابك إلى الاستثمارات الخليجية في دول حوض النيل، كما تتمتع إثيوبيا بعلاقات قوية مع البلدان الرئيسية في إفريقيا، خصوصاً جنوب إفريقيا ونيجيريا والجزائر، فضلا عن دول حوض النيل، وهو ما يفرض أعباءً كبيرة على الدبلوماسية المصرية، في معالجة الفجوة السياسية مع إثيوبيا، والتي تراكمت، عبر السنوات الماضية، بسبب عدم تغيير مصر استراتيجيتها في التفاوض، فيما يتغير واقع الدول والتحالفات بين دول حوض النيل.

دلالات
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .