"موضة" حقوق الإنسان غير الدارجة

18 أكتوبر 2015
+ الخط -
لم تحرج أسئلة المحاور الإعلامي الشرس، جون سنو، رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، للاعتراف بصفقة مع السعودية، لضمان تعيين الأخيرة في لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، على الرغم من ملفها الحقوقي. كرر المحاور سؤاله مراراً، حتى أقر كاميرون، أخيراً، أن التنسيق المخابراتي مع الرياض في غاية الأهمية، لصون حياة المواطنين البريطانيين من عمليات إرهابية محتملة، ما يعني ضمناً أن ملف حقوق الإنسان، بما في ذلك الحكم المتوقع بإعدام الشاب علي نمر وصلبه، ليس ذا أهمية أمام خطر التطرف الإسلامي. علقت السفارة السعودية في لندن على حملة الاستنكار الواسعة للحكم بإعدام الشاب بإصدار بيان تؤكد فيه أن السعودية ترفض التدخل في شؤونها الخاصة في قضية الشاب الذي اعتقل في السابعة عشرة من عمره، لمشاركته في تظاهرات شعبية في إطار الربيع العربي. وعلى منوال كاميرون، دعا رئيس الوزراء الفرنسي، إيمانويل فالس، السعوديين إلى الاستثمار في بلاده، وانتهت زيارته إلى الرياض، بتوقيع اتفاق تعاون اقتصادي وعسكري وتجاري، بقيمة تفوق 11 مليار دولار. لا تشكل الأصوات المعترضة على تراجع اهتمام فرنسا بالضغط في مجال حقوق الإنسان أكثر من تنويع في الصورة.
باستثناء أصوات المنظمات الحقوقية، يتواصل تراجع الاهتمام العالمي بالانتهاكات الحقوقية في المنطقة، ليصبح شأناً داخلياً، غير ذي قيمة أمام أولوية مكافحة الإرهاب، ونعود إلى وضعية مماثلة لما كنا عليه، قبل موجات الربيع العربي، حيث مقولة التعاون مع أنظمة المنطقة تفوق وزناً وأهميةً انتهاكات حقوق الإنسان الواسعة على يد هذه الأنظمة. يبدو الحديث عن حقوق إنسان "موضة" قديمة، وغير ذات شأن أمام التوازنات الاستراتيجية، والتي تجعل من موت الأفراد واضطهادهم مجرد أرقام في جردة يومية روتينية. ماذا يعني أن تقرر السعودية تنفيذ حكم الإعدام بشابٍ، وصلبه في المجال العام، لمجرد أنه شارك في تظاهرة؟ أو أن تنزل بالمدون السعودي، رائف بدوي، عقوبة السجن والجلد لمجرد انتقاده الشرطة الدينية في الشارع؟ ماذا يعني أن يقرر نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر، بطل محاربة الإرهاب، سجن طفل لمجرد ارتدائه قميصاً يحمل شعار "وطن بلا تعذيب"، وتمديد توقيفه من دون محاكمة؟ ماذا لو قرر النظام نفسه سجن أكثر من أربعين ألف شخص، فقط لأنهم يعارضونه، مستعينا بحجة الإرهاب الفضفاضة، بمن في ذلك صحافيون تم اعتقالهم لمجرد القيام بعملهم؟ ماذا إذا منع معارضون من السفر، بحجة تهديد الأمن القومي في مصر والمغرب ودول عربية أخرى؟ ماذا لو حصدت براميل البارود التي يلقيها نظام الأسد على المدنيين في سورية مئات الضحايا، في حين لا يرى المجتمع الدولي بديلاً عنه في الحرب ضد "بعبع" داعش؟
في وسعنا أن نواصل نشر صور الأطفال القتلى، وأن نشجب انتهاكات حقوق الإنسان في دول
الربيع والشتاء. لا قيمة "استراتيجية" لموت هؤلاء المدنيين في بلدانهم، حيث يموت الناس أساساً بالمئات أو الألوف، ولا يمكن لموت هؤلاء أن يصنف خارج خانة "الأضرار الجانبية" للعبة الاستراتيجية التي يتنافس عليها الأقوياء. في أعمدة الصحف وعلى شاشات التلفزة، مئات الحجج المبرمة، يقدمها محللون استراتيجيون أفذاذ، لإقناعنا بلا جدوى الحديث عن ديكتاتوريةٍ وحقوق إنسانٍ ومقتل مدنيين في الشرق "البربري" مرة أخرى. تطرف داعش أولاً، امتداد الخطر الإسلامي، ونموذج "الدولة الفاشلة" في ليبيا، والذي يبدو السلاح الأمضى في إقناعنا بلا جدوى الحديث عن أنظمة ديمقراطية ناشئة، وعن تدخل خارجي لخلع ديكتاتوريي الداخل، باعتبار انتهاكات هؤلاء شأناً داخلياً صرفاً. عشرات التقارير تفند تنافس النفوذين، الروسي والأميركي، على المنطقة، مع الغارات الروسية على سورية، وتقيس التوازنات الجديدة، وتوزع الحصص بين القوتين العالميتين، ومنها تقرير لمركز شاتام هاوس البريطاني العريق، وفيه يصف باحثان الوضع في سورية بـ "حالة من الربح المتوازي" بين القوتين العالميتين، في تسجيل النقاط في المنطقة. يبدو أي حديث عن ضحايا بشرية للنزاع، وعن لاأخلاقية الحديث عن نظام بشار الأسد بوصفه البديل الأقل سوءاً عن داعش، يبدو ضرباً من السذاجة، لا ترقى إلى واقعية المحللين الاستراتيجيين ودهائهم. الرد الجاهز لدى هؤلاء، وقسم واسع من الرأي العام يعبر عن نفسه في الإعلام وخارجه: ليس هنالك اليوم معارضة معتدلة في سورية.
عود على بدء. محاربة الإرهاب أولاً، دكتاتوريون صغار جدد يحلون محل هؤلاء المخلوعين، سجون تضيق بروادها مجدداً، ومحللون استراتيجيون أفذاذ يجدون المبررات الأكثر ذكاء لإقناعنا بأننا لا نستحق أفضل مما نحن عليه.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.