"شارلي إيبدو": عنفُ الضواحي؟

21 يناير 2015

في أحد أحياء باريس الفقيرة (17أكتوبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

في أغلب المقاربات التي تتعلق بالظلم الاجتماعي، يلجأ الناس إلى عاصمة النور، باريس، ودولتها حاملة مشعل الحرية والعدل والمساواة. وذلك ليس بسبب الميثاق الأشهر، والذي حملت شعلته فرنسا وطبقته، صاغرة لأمر الحرية والديمقراطية، بتعيين بعض أركان حكومتها من مهاجرين أفارقة ومغاربة. ولكن، أيضاً، بسبب هذه الحقوق المطبقة رسمياً والظلم الواقع على الطبقات الأقل حظاً من مهاجرين في الأحياء العشوائية في باريس.

وإذا كان الفيلم السينمائي"المقاطعة 13"، من بطولة ديفيد بيل وسيريل رافايللي، يحكي قصة أحد أحياء باريس المضطربة التي سيطر عليها رجال العصابات والمخدرات والعنف، فإنّ استفحال هذه الحالة أجبر السلطات على بناء جدارٍ، يحول بين هذه المقاطعة وبقية الأحياء الأخرى، مما اضطر سكان المقاطعة، بعد تخلي الحكومة عنهم، إلى أن يبقوا بدون تعليم وعلاج وأمن وبيئة صحية. مُنع الفيلم من العرض على الشاشات الفرنسية، وبعد عام من السماح له بالبث، أي في عام 2005، انتفضت الأحياء العشوائية في باريس، وطالبت بحقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية، وقامت بأعمال الشغب الواسعة التي شهدها ذاك العام.

وقد لا يبدو من الحكمة النظر إلى حادثة "شارلي إيبدو" بمعزل عن هذه الخلفية، وعن توجه أحزاب يمينية تقف ضد هجرة المسلمين إلى فرنسا. وما يحسه هؤلاء المتطرفون، وسط أقليات مملوءة بغبنٍ اجتماعي، لا ينفصل عن الغبن الناتج عن استفزاز المشاعر الدينية بشكل عام. وهنا، يخرج المفهوم الجهادي، كعنف مرتبط بالدين، من بين ثنايا هذا الواقع، وهو كما قال طارق أوبرو، إمام المسجد الكبير في مدينة بوردو (جنوب غربي فرنسا)، إنّ الإسلام ليس سوى غطاء اتخذه هؤلاء الشبان للانتقام من المجتمع. ووصل إمام المسجد إلى النقطة المحورية، وهي أنّ هؤلاء حينما فشلوا في أن يجدوا معنىً لحياتهم قرّروا أن يبحثوا عن معنى لمماتهم.

اتجهت هذه المفردة "الضواحي" من بين التقارير التي راحت تنبش في سيرة منفذي الهجوم لتجدها حاضرةً، تعكس إيحاءً مثيراً للاشمئزاز، ودالاً على العنف. وتقترب إلى الأذهان أخبار عنف الضواحي الفرنسية، المشار إليها، والتي اندلعت شرارتها عام 2005، إثر مقتل مراهقين من أصول أفريقية. والصبيان جزء من نسيج اجتماعي من أصول مهاجرة شكلت تفاصيل حياتهم قصصاً مأساوية، بدأت بالفشل الدراسي، مروراً بالبطالة، وانتهت بالسقوط في براثن الجريمة.

ما كشفته التقارير عن حياة بومدين، وبؤس حياتها منذ طفولتها التي قضتها في دار الرعاية الاجتماعية، هي وإخوانها الستة، ينطبق على أحمدي كوليبالي، ابن الضواحي والأخ الوحيد لتسع شقيقات في بيئة بائسة، لم يتمكن من إكمال دراسته، بل انحرف مبكراً، ودارت نشاطاته بين السرقة والسطو المسلح. كما أنّها البيئة القاسية نفسها التي عاش فيها الأخوان كواشي، حيث ترعرعا في دار للأيتام في مدينة رين شرق باريس. وفي سني شبابهما، كان منتهى حلم ومبلغ اهتمام شريف كواشي أن يصبح نجماً لموسيقى الراب، ليعبّر بها عن هموم شباب الضواحي الباريسية، ويلفت انتباه الحسناوات، ثم انحرافه وسلوكه طريق السرقة وبيع المخدرات. ولما انقلبت حياتهما على وجهها الآخر، لم يجد سعيد من بدّ غير التدريب على يد تنظيم القاعدة في اليمن على "عقيدة التكفير والنفير".

وما بين مبدأ المساواة الذي يعد ركيزة راسخة من ركائز قيم الثورة الفرنسية، بجانب الإخاء والعدالة هناك في فرنسا، ومساعدة تلك الحادثة على تأليب الرأي العام، ورفع الأصوات احتجاجاً بضرورة إنصاف المستوطنين غير الشرعيين وسكان الضواحي يخرج هؤلاء يؤكدون على التناقض الكبير بين المبادىء والواقع.

وخلفية هذه الضواحي الفرنسية الأكثر سوداوية أنّها بؤر للصراع، أغلقت على مشكلاتها، وعندما تحركت من تحت الرماد، انطلقت منها بقوة بواعث الانتقام، عند من نشأوا وترعرعوا على تعقيداتها مشرّبين بالظلم الاجتماعي. وعندما أراد هؤلاء إقامة العدل بطريقتهم الخاصة، رأوا أنّ تنفيذه لا بد أن يتم بقنبلة أخرى، مستثمرين الأصوات المعترضة على اعتبار اعتناق الإسلام وإقامة شعائره يناقض الحريات المكفولة. فما كان من منفذي الهجوم إلّا فعل ذلك باسم الإسلام، وبدعوى الانتقام للنبي محمد (ص)، لما له من أثره الأكبر والأعلى دويّاً مما كان يمكن أن يتم باسم الظلم الإجتماعي في بلاد ترعى هذه الزعازع، ويتفاقم فيها صدى ثورات الحجاب مع قيم الحرية.

ونتذكر أنه بعدما تم التعرف والقبض على المشتبه فيهما في تفجيري ماراثون بوسطن في الولايات المتحدة، في أبريل/نيسان 2013، وهما الشقيقان الشيشانيان المسلمان، كتب زيبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، في مقال عنوانه (مواجهة التظلمات ضد أميركا)، أنّه يفتقد نقاش الحقيقة البسيطة أن وراء كل عمل إرهابي سابقة أو خلفية سياسية، فالحقيقة أنّ كل نشاط إرهابي تقريباً منشأه نزاع سياسي. وإذا كانت لا توجد أعذار لاعتداءات "11 سبتمبر"، فهناك أسباب لها تكمن في السياسة الخارجية الأميركية.

وما يلزمنا في حادثة "شارلي إيبدو" هو الفصل بين الإسلام والعنف القداسيّ نتاج الغبن الاجتماعي في المجتمعات الغربية.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.