دواعش التفتيت.. أي وحدة وأي دولة؟

02 يوليو 2014

عنصر من "داعش" في الرقة (رويترز)

+ الخط -

في فراغ القوة والهيمنة والنفوذ، وتشتت القوى، وضعف الأقطاب الدوليين وتنافسهم الحاد، وعدم الوصول إلى "اتفاق مصالح" حتى بينهم؛ وسط هذا الفراغ، لم يكن أمام الكيان المسمى "داعش"، وهو اختصار ما يسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" إلا القفز خطوة أخرى في المجهول، أو في هواء الفراغ الدولي والإقليمي، ووسط الدواخل العاجزة عن حماية نفسها، في مواجهة غزوات "الدواعش" وأمثالهم، من خلاصيي التدين الجديد، الآخذ على عاتقه مهمة العمل على ابتناء دولة/كيان جديد، يشار إليه كونه "دولة الخلافة"، تلك التي بقيت حلماً أو وهماً في أذهان عديدين، إن لم نقل كل قوى وتيارات وأحزاب الإسلام السياسي وغير السياسي.
وها هو تنظيم "داعش"، بغلاظته وغلوه وتطرفه، ونزوعه الغريزي – الخلاصي، يستبق الجميع، ليعلن دولته للخلافة، على الرغم مما تثيره هذه الخطوة من خلافات واختلافات بائنة وواضحة، بينه كتنظيم وتنظيمات مشابهة، وحتى أقرب المقربين منه: كتنظيم القاعدة ممثلاً بجبهة النصرة وغيره من فروع وأجزاء من أجزاء التنظيمات المتناسلة من بعضها، حيث يطيب التفتيت، فأي دولةٍ، وأي وحدةٍ، يمكن أن تنشأ من جراء الخطوة "الداعشية"؟ وأي خلافة مختلف عليها من المبتدأ وحتى المنتهى؟
الخلافة "الداعشية"، واحدة من أبرز عناوين الخلافات، ليس المذهبية أو الطائفية، بل داخل المذهب الواحد والطائفة الواحدة؛ وعراق اليوم الذي سمح بإعلانٍ كهذا عن "خلافة"، بزعامة "داعش"، هو اليوم، كما بالأمس؛ ضحية أكثر من احتلالٍ محليٍّ ودولي وإقليمي، انتقل، وعلى مر عشرات السنين، من استبداد إلى آخر، وصولاً إلى استبدادٍ راهن، يصارع للبقاء، مثل مشروع حرب أهلية طويلة ومدمرة؛ تماماً كما هو الحال في سورية التي خضعت، وتخضع، لعدد من قوى الاستبداد وأنواعه؛ بدءاً من استبداد النظام الاستملاكي، مروراً باستبدادات قوى التدين المحلي، وأضرابها من قوى "الجهاد" الأممية، وصولاً إلى "داعشيي الخلافة" الذين يراد لهم إن استقرت أمورهم أن يشكلوا امتدادا لـ "داعشيي الخلافة" في العراق، هذا في حال استمر الود بلا خصام النزوع التفتيتي بين "الدواعش" أنفسهم.
  وإذا كانت معاناة شعوبنا ومجتمعاتنا ودولنا شاقةً وعسيرة، جراء تقسيمات سايكس بيكو وحتى اللحظة، فإن انقساماتنا جراء "دولة الخلافة" ستكون أكبر، لا سيما بما تحمله من بذور حروبٍ أهلية طويلة، سوف تكون أقسى وأمر، وأكثر تدميراً مما شهدناه حتى اليوم، منذ احتلال فلسطين، وتحوّل دول الإقليم إلى حارسة لمصالح الاحتلال الكولونيالي والأهداف الاستعمارية التي قامت "إسرائيل الوظيفية" على حمايتها، ولم تزل، بمشاركة موضوعية، وإن بشكل غير مباشر مع تداعيات سايكس – بيكو، وخصوصاً لجهة التماثل بين بعض أنظمة وظيفية وإسرائيل ككيان استيطان استعماري. 
        
 التمدد "الداعشي" الحالي في العراق وسورية، في ميزان الوضع الدولي، ليس أكثر من ظاهرة "سايكس بيكوية" جديدة مضافة، وعنواناً لتفتيت وتجزيء ما لم يكن مفتتاً أو مجزءاً من قبل. كما هو إعلان حرب أهلية، أو حروب الأهل ضد الأهل، باسم "المقدس التديني" المخترع من أفراد أو مجموعات شقت غبار الطاعة، وهي، في المقابل، تريد طاعة الناس لها من دون وجه حق، سوى ادعاء استعادة ما كان في بطون كتب التاريخ، من سرديات خلافة مرت بأطوار متعددة؛ من الخلافة الدينية إلى الخلافة المدنية إلى الخلافة العائلية، وصولاً إلى الخلافة العثمانية التي انتهت في عشرينات القرن الماضي. وكأن هؤلاء الماضويين لا علاقة لهم بحاضر أو مستقبل، وبالفعل الأمر كذلك؛ إنهم يريدون الاستيلاء على المستقبل من شرفات ماضٍ، لا يمكن له أن يعود، أو يجري تمثله، وتمثل شخوصه، أو عقلياتهم التي سادت يوماً ومن ثم بادت، وهي بائدة في مطلق الأحوال، مهما ادعى المدعون، أو زعم الزاعمون. 
 من عفن استبداد الأيديولوجيا القومية، إلى عفن استبداد الأيديولوجيا الإسلاموية، نشأت "داعش" على أنقاض البنى التي انهارت، منذ صعد أيديولوجيو البعث القومي إلى السلطة، حين دمروا الدولة ومؤسساتها، وجعلوا منها خراباً، ترتع فيه أجهزة القمع البوليسية التي صارت بديلاً لكل شيء، ما عدا سلطته "المؤبدة"، وفي خدمته. وها هي "داعش" نفسها تريد تكرار تجربةٍ من تجارب الفشل الأيديولوجي لقيامة الدول التي تولد ميتة، فلا يحييها سوى دفنها ولو حية، قبل أن يستفحل خطرها وخطر تحولها إلى سرطانٍ يميت الأموات قبل الأحياء؛ فأي دولةٍ للتفتيت، يمكنها أن توحد ما لم يتوحد أصلاً، وأي وحدة تموت على أيدي "الداعشيين" وأضرابهم، قبل أن تحييها الأيديولوجيا، لتميت معها دولاً كانت قد شبعت موتاً، منذ الصعود الانقلابي لبعثيي الأيديولوجيا القومية التي انقلب أصحابها على ذواتهم، مرات ومرات.
  وفي كل الأحوال، تبدو مخاطر ما أقدم عليه تنظيم "داعش" اليوم، وفي الغد، أكثر ما تبدو داخلية، في مجتمعاتٍ معنية بما يجري، وهي المستهدفة أصلاً، على العكس مما يعتقد بعضهم من أن خطوة "داعش" موجهة للخارج (إسرائيل وإيران والغرب)، غير المستهدف إلا بمقدار ما ينجح "الداعشيون" في تدمير الدواخل الوطنية، لبلدانٍ بدت وتبدو وطنياتها الراهنة مقهورة ومسلوبة الإرادة، هشة وقابلة للانكسار، على أيدي ممتطي أحصنة الاستبداد المتلون؛ من كان منه في السلطة، ومن يجعل من نفسه وريثا له، ولو بالقوة "الداعشية".     
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.