بحثاً عن قبر "محترم"

02 ديسمبر 2014

في تشييع صباح (30 نوفمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

ربما لو قرأت الراحلة، صباح، عبارة محمود درويش: "ومن لا برَّ له.. لا بحرَ له"، لكفت نفسها عناء تأثيث ضريحها الفخم بكل تلك القطع الثمينة من سرير مزدوج، يتسع إلى سبعة أزواج من الرجال معاً، فضلاً عن اللوحات الفنية التي تزين جدران الضريح، والمشروبات المتنوعة، والتحف الباذخة.

والحال أن ما يهمني من أمر "الشحرورة" تساؤلي عن ذلك الحرص المحموم، الذي بدا عليها في أعوامها الأخيرة، بغية الحصول على قبر "محترم" من فئة "الخمس نجوم"، فهل كانت تطمح، مثلاً، إلى مواصلة حياة البذخ التي عاشتها طولاً وعرضاً، أم أن المسألة تكمن في رغبة التعويض عن نقص في "الاحترام"، ربما كانت تشعر به، طوال حياتها الأولى، فارتأت أن القبر "الديلوكس" كفيل بتحقيق هذه الغاية؟

شخصيّاً، أرجح أن الإجابة الثانية هي الأقرب إلى التصديق، ذلك أن "الصبوحة" مواطنة عربية، قبل أن تكون مطربة، خبرت الحياة "غير المحترمة"، إن لم يكن بالتجربة، فبالمعاينة على الأقل، وشاهدت، بأم عينها، كيف تُفقد الإنسان العربي احترامه ذاته آلافُ الأسباب، من صرخة الولادة إلى شهقة الموت، وعرفت أن هذا المواطن إنما يعيش حياته فعليّاً في قبر "غير مؤثث" بأبسط مقومات الكرامة والاعتزاز بالذات.

وربما أيقنت صاحبة "زي العسل" أن لا عسل حقيقيّاً في الخلايا العربية "النائمة" في كهوف التاريخ، وأن غياب "الاحترام" لا يقتصر على الشعوب فقط، بل يمكن أن يطال زعماءها، أيضاً، فكان من سوء طالعها، في أواخر حياتها "المحترمة"، أن شاهدت زعيماً عربيّاً يعلق على حبل المشنقة، من دون أدنى "احترام" لنياشينه ومهابته التي كانت كفيلة بدبّ الرعب في أوصال ديدان الأرض و"فئران" ما فوق الأرض. وشاهدت زعيماً آخر يقاد إلى عتمة المحاكم بالنظارة الشمسية التي يظل مصرّاً على الاختباء خلفها، طوال جلسات المداولة، بحثاً عن فلول "احترام" في زوايا القفص الحديدي. وزعيماً تحولت عصا صولجانه من يده إلى "قفاه"، في صحراء بلاده التي لم يكن يشاهدها إلا على خريطة ضخمة، كانت تزين قصره أيام "الاحترام" الغابرة.

لهذه الأسباب، منفردة أو مجتمعة، ربما اختارت صباح أن تبحث عن "احترام" مفقود في الحياة العربية، غير أنها لم تتمعّن بعبارة محمود درويش تلك مليّاً، لتعرف أنها لن تنعم بأي احترام في القبر التالي، ما دامت لم تنعم به في القبر السابق.

وحده درويش أدرك هذه المعادلة، لأنه فلسطيني خبر غياب الاحترام جيداً في الحياة العربية، وعرف أن "من لا برّ له لا بحر له"، ووحده العربيّ المبعثر على أرصفة الازدراء والاحتقار يعرف هذه المعادلة أيضاً، وإلا فمن يستطيع أن يقنع هذا المصاب باحتقار الذات أن حياته كانت "مهمة"، في أتون أنظمةٍ لم تحترم جسده وروحه وعقله وأحلامه، واعتبرتها بذخاً لا ينبغي إيلاءه أي اهتمام أو "احترام".. عربي ممزق الجسد ومقطوع الأرزاق والأعناق، بدءاً بسكاكين ومُدى أنظمته، وليس انتهاء بسيوف "داعش"..عربي لم يعد يطمح إلى أكثر من أن يكون جثة مكتملة الأعضاء، لحظة قذفه في قبر جماعي على الأرجح.

ترى أي "احترام" جسدي ومعنوي كانت ترومه الراحلة صباح، في قبر عربي، يشاركنا الرحم والحبل السري لحظة الولادة، بل تحرص أنظمتنا على حفره لنا، حالما تظهر نتائج تحليل حمل أمهاتنا بنا، قبر مؤثث بعظامنا قبل موتنا، وبأحلامنا الميتة قبل ولادتها، وبحريتنا المسحوقة بآلاف الممنوعات والتابوهات المحرمة، والتي تصلح أن نضعها نظارات تقينا الشمس والضوء و"الاحترام"، على غرار الزعيم المطاح ذاك.

مسكينة "الصبوحة"، ماتت من دون أن تدري أنها انتقلت من حياة عربية "غير محترمة" إلى قبر عربي "غير محترم".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.