هل تعلّموا من درس العراق؟

26 نوفمبر 2014

دفع درس العراق أميركا للبحث عن حلول بديلةٍ لنظامه(Getty)

+ الخط -

هل تعلّم الأميركيون من أخطاء الدرس الذي فرضوه على العراق، بعد إسقاطهم نظام صدام حسين، وهو أن أي نظام غير ديمقراطي يلي في بلداننا نظاماً استبدادياً، لا بد أن ينتج الإرهاب بديلاً حتمياً ووحيداً له؟
نصّب الأميركيون والإيرانيون نظاماً عراقياً، آلت قيادته، بعد سنوات من التخبط، إلى خبير في الأنشطة الأمنية السرية، هو نوري المالكي، الذي أقام سلطته على فئة عراقية واحدة، لها أغلبية عددية محدودة، وتمتلك وعياً تاريخياً بما تسميه "المظلومية"، يعبر عن نفسه، على الصعيد العام، من خلال توق جارف إلى السلطة والحكم، كما أقامها على جهاز أمن كبير ومتشعب وجيش جرار وحديث العتاد، دربه الأميركيون والإيرانيون، وأشرفوا عليه. وقد اتبع المالكي أساليب في الحكم ميزت بين المواطنين، وعرضت قطاعات واسعة منهم لعمليات قمع وملاحقة وإقصاء مستمرة، كانت جزءاً من سيرورة إنتاج وعي فئوي، يعزز غلبة طرف على طرف، ليس فقط على الصعيد السلطوي الداخلي، وإنما كذلك على صعيد العلاقات مع إيران: المرجعية الإقليمية للمالكي، المدعوم من مؤسستيها الدينية والعسكرية، وبصورة خاصة من جنرالات الحرس الثوري، الحاضرين بقوة في حياة العراق السياسية والعسكرية. وبالنتيجة، خال الأميركيون والإيرانيون أن هذا النمط من تنظيم الحكم أدخل العراق في مرحلة استقرار مديدة، وإن واجهت مشكلات هينة سيكون من السهل التغلب عليها من دون صعوبات تذكر.
لكن، لم تتفق حسابات البيدر مع حسابات الحقل، فقد أصيب النظام بالضعف، نتيجة القمع والفساد والملاحقات الأمنية بالذات، التي أرهقت الشعب والقوى السياسية في كل مكان من العراق، وخصوصاً في مناطقه الغربية، حيث أغلبية المواطنين من العرب السنة الذين دأبوا على تبني رؤى ديمقراطية ووطنية لمشكلات بلادهم، تتصل بالتوزيع العادل للثروة، والتنمية المتوازنة، والحقوق السياسية والقانونية المتساوية لجميع المواطنين، وبالتمثيل العادل للعراقيين في الحكم والسلطة، وأخيراً، بالحريات العامة واستقلال القضاء ونزاهته، وبالطابع الوطني لأجهزة الجيش والأمن.

هذه المطالب التي كان من شأن تحقيقها تأسيس مناخ عدالة ومساواة، في بلادٍ تعاني من طائفية الحكم، وأثرها التخريبي على المجتمع، وكان من شأن تلبيتها إحداث نقلة مهمة نحو دمقرطة البلاد، وإخراجها من احتجازات داخلية وخارجية، لا مصلحة فيها لشعبها ودولتها، تحول بين العراق وانتهاج سياسات تمكّنه من بدء عملية تقدم مفتوحة، تخرجه من تاريخ حافل بالتخبط وبمآزق غدا أسيراً لها، على صعيد نظم حكمه وعلاقاتها مع شعبه. بعد عشرة أعوام من حكم فئوي، تبين أن ما أقيم في العراق لم يكن سلطة قوية، وأجهزة أمن وجيش فعالة وقادرة على مواجهة التحديات الداخلية، وبالضبط منها، التي تمثلها تنظيمات الإرهاب، ومع أن وضع العراق بدا وكأنه تحت السيطرة، فإن تكلفة ضبطه كانت ترتفع من يوم إلى آخر، بشرياً ومالياً، مادياً ومعنوياً. كما تبين كذلك أن سرطاناً حقيقياً كان ينمو بصور شتى في أحشاء الظلم والإقصاء، وعندما تحرك ظهر أن حجمه أكبر من قدرة الأجهزة القمعية والجيش على احتوائه والتغلب عليه، وأنه عصف بهما وتسبب في انهيارهما وإخراجهما من ثلث العراق في أيام قليلة، بينما تخليا عن معظم أسلحتهما ومقراتهما من دون مقاومة. فجأة، بدا أن هناك سلطة بديلة، قامت على أنقاض السلطة الحاكمة. 
سارع الأميركيون إلى إقالة المالكي، واحتواء الكارثة التي حلت بجيش بلاد الرافدين وأمنها وحكومتها، فهل فعلوا ذلك، لأنهم أدركوا أن أي نظام لن يكون قوياً وحصيناً ضد الإرهاب، وقادراً على كبح جماحه، إذا لم يكن ديمقراطياً، ولم يعبر عن إجماع وطني حول الحكم، ولم يقم تطابقاً حقيقياً بينه وبين خيارات المجتمع يضعه في خدمته؟ وهل قرر الأميركيون تطبيق نموذج حل جنيف للأزمة السورية في العراق، لاعتقادهم أن إطاحة ديكتاتور يحتل رأس السلطة ضرورية لإنقاذ النظام وكبح جماح الإرهاب؟ وبالنسبة لنا في سورية: هل قرروا التخلي عن خيار الفوضى بديلاً للنظام الأسدي، وقبول الخيار الديمقراطي الذي طالب الشعب به عند بدء الثورة، وتعاون النظام والإرهابيون على دحره، وقاتلوا كل داع له ومطالب بتحقيقه، وأضعفوه إلى حد بعيد؟ هل قررت واشنطن قبول الديمقراطية ودعم أنصارها السياسيين والعسكريين، الموزعين على قوى ترفض الاستبداد السياسي القائم والبديل الإرهابي الداهم؟ وهل سنرى نتائج قرارها على الأرض، ميدانياً وعملياً، في الحقبة القريبة المقبلة، بعد خروجها من عوالم الشك والتوجس الملازمين سياساتها وطريقتها في رؤية مشكلات المنطقة وثوراتها؟ أعتقد أن حدوث تبدل في الموقف الأميركي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بترتيب أوضاعنا، كتيار ديمقراطي متنوع الانتماءات والقراءات، وبقدرتنا على التفاعل بإيجابية مع الجيش السوري الحر ووحدات المقاومة التي ترفض الخيارين الطائفي والمذهبي، وعلى التواصل مع الداخل السوري بطرق تعطيه الأولوية في خططنا وعملنا. وأخيراً، برغبتنا في أن نعمل لنكون حقاً بديل النظام القائم والإرهابيين في آن معاً. دفع درس العراق أميركا إلى البحث عن حلول بديلةٍ لنظامه، شجعتها على الانخراط في الصراع ضد الإرهاب، أهمها حكومة وحدة وطنية مستقلة نسبياً عن القوى الإقليمية، تضم، في الوقت نفسه، ممثلين عن معظم تيارات الداخل العراقي وتوجهاته. ترى، ألا يجب أن نقيم، نحن في سورية، وضعاً يقنع العالم أن بديل النظام الحالي سيكون ديمقراطياً، عبر إقناعه بأننا نحن، أيضاً، ديمقراطيون، وأننا بدأنا إقامة الظروف الكفيلة بجعل شعبنا يثق بصدقنا وجديتنا ويتفاعل بإيجابية مع ما نعده به: سورية الحرة، دولة العدالة والمساواة والكرامة؟

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.