السودانيون لا يتعاملون مع البنوك

01 أكتوبر 2014

في بنك الخرطوم (5 يونيو/1992/Getty)

+ الخط -

حين جاء الإسلاميون إلى الحكم في السودان، قبل خمسة وعشرين عاماً، جاءوا بدعوى أن دولة ما بعد الاستقلال كانت فاشلة، لأنها، كما زعموا، كانت "دولة علمانية"، "لم تطبق شرع الله"، الذي هو الحل لكل معضلة. رفع النظام الشعار الإسلامي، وسمّى مشروعه في الحكم "المشروع الحضاري"، وسمّى دولته "الدولة الرسالية". الطريف أن مثل هذه الدعاوى العريضة تنهار أمام تصريحاتٍ صغيرة، عفوية، يطلقها المهنيون، وهم يعالجون شؤون مهنتهم بصورة روتينية.

أوردت صحيفة "الرأي العام" السودانية، الصادرة، الأحد 21 سبتمبر/أيلول الجاري، أن خبراء ماليين سودانيين، يقدِّرون أن 96% من سكان السودان، ممن يحق لهم فتح حسابات مصرفية، ليس لديهم حسابات مصرفية! أي أن، 4% فقط من السودانيين هم الذين يتعاملون مع البنوك؛ إيداعاً وسحباً، واقتراضاً. ويعني ذلك أن 96% من الكتلة النقدية المتداولة داخل القطر السوداني يجري تداولها خارج نطاق الدورة المصرفية التي تمر عبر البنوك التجارية! وهكذا، يمكن لمعلومةٍ صغيرةٍ كهذه أن تقضي على كل دعايةٍ، تقوم بها الحكومة لنفسها.

الدولة التي لا يتعامل أكثر من 4% من سكانها مع البنوك، أقل ما يقال عنها أنها لا علاقة لها بالقرن الواحد والعشرين، ولا بالعشرين، بل ولا حتى بالقرون القريبة التي سبقتهما. فتاريخ النشاط المصرفي يعود، في صورته الحداثية في أوروبا، إلى قرون خلت. أيضاً، تدل هذه الحقيقة المفزعة، دلالة قاطعة، على أنه لا يوجد في السودان شيءٌ يمكن أن نسميه اقتصاداً؛ بالمعني العلمي، أو الحداثي للكلمة.

الخبراء الذين أذاعوا هذه الحقيقة المفزعة عزوا عدم تعامل السودانيين مع البنوك إلى ما سموه: "قلة الوعي المصرفي". وعلى الرغم من أن "قلة الوعي المصرفي" في السودان حقيقة لا مراء فيها، إلا أن مثل هذا التفسير يجعل من يسمعه يفهم أن الشعب يملك المال، لكنه يفتقر إلى الوعي الاقتصادي والمصرفي الذي يجعله يودع أمواله في البنوك، نتيجة جهلٍ بالمزايا الاقتصادية، بل والأمنية للإيداع. للأمر جوانب أخرى؛ فالشعب، في مجمله، أفقر من أن يودع نقوداً في البنوك، فالرعاة والزراع الذين يمثلون السواد الأعظم من الشعب السوداني، ظلت صلتهم باقتصاد الدولة الحديثة، شديدة الضعف.

فشلت الحكومات المتعاقبة، منذ الاستقلال، في أن تدخل سواد المواطنين في دورة الاقتصاد الحديث. هناك صفوة قليلة جداً ظلت تجلس على سنام الدولة، ولم تعرف أبداً كيف تدعو بقية سكان القطر، ليجلسوا معها حول مائدة الحداثة. انشغلت هذه الصفوة بنفسها، فعرفت البنوك، وأبقت الكثرة الغالبة محبوسة في حقبة ما قبل الحداثة، لا يربطها بالعصر ولا باقتصاده، رابطٌ يستحق الذكر. ومع أن هذا الخلل الجوهري ساد كل حقبة ما بعد الاستقلال، إلا أن الإسلاميين أوصلوه إلى مستوى الكارثة.

أدت سياسات الخصخصة الاقتصادية التي اتبعها نظام الإسلاميين في السودان، وسياسة خفض العمالة، في خمسة وعشرين عاماً مضت، إلى القضاء المبرم على ما كانت تسمى الطبقة الوسطى الحضرية في السودان. أيضاً، بدل أن تنمو القطاعات الانتاجية التقليدية، وتدخل أكثر فأكثر، في دورة الاقتصاد الحديث، انهارت هذه القطاعات، ورحل سكان الريف إلى أطراف المدن، ليمارسوا مهناً هامشية عشوائية، لا تقيم الأود، ولا يمكن أن تربط صاحبها ببنك، أو حتى بالدولة ونظامها الضريبي.

أيضاً، تحولت الدولة السودانية، عقب اكتشاف البترول، في نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي، من دولة إنتاج تقليدي، إلى محض دولة ريع، يعود الريع فيها إلى طبقةٍ صغيرة جداً، تجلس على قمة هرم السلطة. حول الإسلاميون مشروعهم "الإسلامي الحضاري" إلى مشروعٍ، انحصرت أهدافه في إثراء القلة القليلة، عن طريق الإفقار الممنهج للكثرة الغالبة. خرج موظفون وعمال كثيرون من وظائفهم، نتيجة سياسات "التمكين" التي حصرت الحصول على الوظائف الحكومية ووظائف الشركات الخاصة، التي يمتلك الإسلاميون غالبيتها، على عضوية الحزب الحاكم.

أصبح المجتمع السوداني مكوناً تقريباً من طبقتين: طبقة الحزب الحاكم الصغيرة التي تملك كل شيء، وطبقة الشعب العريضة التي لا تملك أي شيء. لذلك، لم يكن مفاجئاً أن يتضح، بعد خمس وعشرين سنة من الدعاية المكثفة لـ"المشروع الحضاري"، أن 4% فقط من السودانيين هم الذين لهم حسابات مصرفية! وحتى من نجوا من كارثة "التمكين"، وبقوا في وظائفهم، فقد جعل الغلاء الفاحش، والانهيار المستمر في سعر العملة، أجورهم الشهرية لا تبقى في جيوبهم إلى أبعد من اليوم الخامس من الشهر. وهكذا، لم تعد لهذا القطاع العريض حاجة ولا طاقة، لأن يودع نقوداً في البنوك.
 
حاولت الدولة التشبه بالبلدان التي اعتمدت التقنيات الحديثة، فأدخلت ماكينات السحب النقدي في المدن الرئيسة، وشرعت، مع شركات القطاع الخاص، في إرسال الرواتب الشهرية للعاملين إلى البنوك، بدلاً من صرفها نقداً في أماكن العمل، كما كان سائداً. ولكن، ما يحدث أن أصحاب الرواتب الشهرية يسحبون كل ما يُودع في حسابهم، جملة واحدة، منذ اليوم الأول من الشهر لينفقوه في بضعة أيام، ويشرعون، من ثم، في التطلع الى هلال الشهر الجديد.

أيضاً، بسبب الاضطراب الاقتصادي، لم يعد إيداع الأموال في البنوك مغريّاً، حتى لمن يملكون المال. فالنقود السودانية ظلت تفقد قيمتها بصورةٍ متصلةٍ ومتسارعة. فما تودعه هذا العام، يفقد قدراً معتبراً من قيمته في العام الذي يليه. وقد وصل هذا الفقدان في بعض الأوقات إلى 50% من القيمة التي كانت للعملة لحظة الايداع. لذلك، اتجه من معهم الأموال إلى تحويل أموالهم إلى عقارات، كالأراضي والبيوت، أو تحويلها إلى ذهبٍ ومجوهرات، أو إلى عملات أجنبية يهربونها ويحفظونها في بنوك الخارج.

حين جاء الإسلاميون إلى الحكم، في السودان، في عام 1989، كان الدولار الأميركي يعادل 13 جنيهاً، فقالوا: "إذا لم نأت إلى الحكم، فإن الدولار كان سوف يصل إلى عشرين جنيهاً سودانيّاً". ولكن، بعد ربع قرن أمضوه في الحكم منفردين، أصبح دولار واحد قيمة ما يزيد عن تسعمائة جنيه سوداني؛ أعني الجنيه الذي كان في عام 1989.

أحست الحكومة أن الأرض بدأت تميد تحت قدميها، فرمت إلى الساحة السياسية السودانية المضطربة مبادرة لَمّ الشمل الوطني، سمّتها "الحوار الوطني"، وهي خطوة جيدة، من حيث المبدأ، لأنها تفتح بابَ الخروج من المأزق الكبير الراهن، غير أن الحكومة، كدأبها في اللجاج، شرعت تتحدث عن انتخابات 2015، لكي تبقى الأمور على ما كانت عليه.

على الإسلاميين السودانيين، أن يتركوا صلفهم وعنجهيتهم، وينظروا إلى هذه الحقيقة المفزعة: (%4 من السودانيين يملكون حسابات مصرفية!) وعليهم أن يسألوا أنفسهم: هل أحدث انفرادهم بحكم السودان ربع قرن، أية نقلة تستحق الذكر في حيوات السودانيين؟ فالواقع العملي يقول لا، وبالصوت العالي.

إذن، عليهم أن يعيدوا النظر في تحالفاتهم الخارجية وسياساتهم التي رمتهم في جب العزلة. أما داخليّاً، فعليهم الجلوس الى القوى السياسية كافة، بقلبٍ وعقلٍ مفتوحين، والحوار مع الجميع بلا استثناء، عسى أن تتوحد الجهود، وتقف الحروب، ويتم إخراج البلاد من حالة العزلة، وانتشالها من هذه الحالة القروسطية، نادرة الشبيه، في عالم اليوم.