"2 أغسطس" بعد 24 عاماً

05 اغسطس 2014

عربات للجيش العراقي في الكويت مدمرة (مارس/1991/أ.ف.ب)

+ الخط -

لا شطط في الزّعم أن يوم الثاني من أغسطس/آب 1990 أخذ العرب إلى انعطافةٍ حادّة، صيّرت ما بعده غير ما قبله تماماً. ولهذا، تستحق جائحة غزو الجيش العراقي الكويت، فجر ذلك اليوم، أن توصف بأنها حدثٌ تاريخي كبير، في الوسع أن يقال إن مرتبته تداني نكبتي 1948 و1967 واجتياح بيروت في 1982. ليس على صعيد ما جرى في هذه النازلات، بل بشأن الآثار الفادحة، والعظيمة الأهوال التي استولدت، تالياً، حالاً عربياً مختلفاً كلياً عن سابقه. ولأن الأمر هكذا، يصحُّ السؤال عمّا إذا كان العراق سيلحق به كل هذا الخراب، وستطاله كل هذه الأوبئة الطائفية والتقسيمية، بعد الاحتلال الأميركي، لو لم يُقدم صدام حسين على حماقته إياها ذلك النهار، قبل أربعة وعشرين عاماً. هل كان هذا الاحتلال سيحدُث، وهل كانت تلك الحرب التي جاءت به ستكون، وكذا سابقتها الحرب التي طردت جيش العراق من الكويت، وأعقبها الحصار المريع الذي لا يُنسى؟ هل كان العراق سيتدحرج في هذه الكوارث، واحدةً بعد أخرى، وصولاً إلى احتلال داعش الموصل، واحتلال نوري المالكي بعض بغداد؟
ليس المشرق العربي الراهن نفسه الذي كان قبل صباح يوم الخميس ذاك، وأَن يقال إن العراق كان مستهدفاً بمؤامرةٍ لإضعافه، حتى لو لم يقترف صدام اجتياح الكويت، فذلك قولٌ لا طائل منه، لأن الاستهداف، إنْ صحَّ، وإنْ حدث، لم يكن سيسوق العراق والمنطقة إلى القاع الذي صرنا فيه بسبب كارثة غزو الكويت. ولأن التنجيم ليس مهنة أهل التعليق السياسي في الصحافة، فليس من شواغلنا إشاعة خيالاتٍ عمّا كان سيحدث، لو وقع ذلك الأمر ولم يقع هذا. الأجدى أن نحدّق في الذي صار على صعيد الاختلال في علاقات الشعوب العربية ببعضها، فنتذكّر أن شماتةً في الكويتيين والخليجيين جهر بها عربٌ ليسوا قليلين، إبّان أُريد إشاعة الظنون السوداء بأن الغنى في أبوظبي سبب الفقر في نواكشوط. ولنتذكّر أن التصفيق لصدام حسين دوّى كثيراً في غير عاصمةٍ عربية، لا لشيء إلا لأن أَميركا تمقته. ولنتذكّر أن مثقفين عرباً (قليلين للحق، منهم جورج طرابيشي) رأوا في ضم الكويت ولايةً للعراق فعلاً وحدوياً بسماركياً محموداً، وإنْ كان محبّذاً أن تتحقق الوحدة هذه بكيفيةٍ ديمقراطية مغايرة.
تُرانا، هنا، ننبش في أرشيفٍ من الأحسن نسيانُه، فيما الأوقع أن نطلّ على "2 أغسطس"، على مبعدة كل هذه الأعوام، بعينٍ ترى الدرس المفيد، وتعثر على الخلاصة الأنفع. ولكن، أيُّ طاقةٍ في وسع المواطن العربي أن يحوزها، ليغمضَ عينيه عن هدمٍ قاتلٍ للدولة الوطنية العربية وسيادة شعوبها فيها، يحدثُ بهمةٍ نشطة، في بلديْن ثقيليْن في موازين الاستراتيجيا وفي خرائط الإقليم، هما العراق وسورية، فيما مصر مريضةٌ بأعطابٍ أخرى. ولكن، هل يحتمل التاريخ كل هذا البؤس، هل يدوم هذا كله؟ وحده الحدسُ بتفاؤلٍ ما، عصيٍّ على برهانٍ يشير إليه، يخبرنا أَن التاريخ لا يطول كثيراً على مقلبٍ واحد، وإِن استعصت النوائب فيه على العد، فسيطوي دفةً، ويروح إلى أخرى. أَما متى وكيف، فلم يسعفنا شرّاح حضارات الأمم وهزائمها بمناظير استطلاع للبعيد البعيد في مستقبلٍ، آتٍ ومشتهى.
إنها الديكتاتورية في أعتى مظاهر استلابها إلى خرافاتها عن نفسها، استبدّت بالرئيس العراقي في حينه، فصار الذي صار. وهي ذاتها الطاعون الذي أحدث في الدولة القُطرية العربية كل هذه الإخفاقات التي تراكمت، في التنمية والعدالة والحقوق العامة والعمران السياسي والتقدم الفكري. وهي السرطان الذي استقدم الأجنبي محتلاً أو شريكاً في المال العربي أو صانع قرار في عواصم عربية. وبانكشاف ديكتاتورياتنا وهزائمها التي توالت، وبعريها أمام رعاياها، وأمام نفسها، وباتضاح هشاشتها واهترائها، صار طبيعياً أن نفاضل اليوم بين جبهة النصرة وداعش، وأن نرى فتح معبر رفح إنجازاً، وأن نعد نقصان عدد القتلى في سورية عن ثلاثين في اليوم الواحد هناءَة بال... هذه بعض أحوالنا، ممّا تراه عينٌ تطلُّ على حادثة اجتياح الكويت، على مبعدة أربعةٍ وعشرين عاماً عنها.
 
 
 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.