يوم شاركتنا القطّة طعامنا

02 ديسمبر 2018

(Getty)

+ الخط -
كان المطر يهطل بغزارة، وأنا ذاهب لزيارة عمتي الحاجة عيوش في الحارة الشمالية. ولم يكن معي شمسية. في فترة مراهقتي وشبابي، كنت أشتري شمسية، وأحملها وأذهب في مشوار.. إذا توقف المطر وأنا في مكان ما، أنسى الشمسية، وأعود إلى البيت دونها، ولم أكن أتذكّرها حتى تمطر السماء مجدداً، فأنسى وقتها أين نسيتها في المرة الماضية! في كل شتويةٍ، كنت أشتري بضعَ شَمَاسٍ وأضيعها. وفي سنة 1994 اشتريت سيارة، فاستغنيت عن الشماسي نهائياً، لأن المشوار من باب المنزل إلى باب السيارة لا يكفي لأن أتبلل بالمطر، وطالما أنني سأضيع الشمسية فلماذا أقتنيها؟
عندما وصلت أمام دار صديقي، أبو بري، في الحارة الشمالية، وجدتُ الباب مفتوحاً، وكان ثلاثة من أبناء بلدتنا يدخلون الدار. لمحني أبو بري من الداخل فهتف: أهلين أبو عبدو. جيت بوقتك! يا الله يا الله، تفضل شاركنا الطعام.
كنت يومها أُعْرَفُ بين الناس باسم أبو عبدو، على الرغم من أنني لست متزوجاً، وإنما يُكنى الشاب عندنا باسم أبيه، وأبي هو المرحوم عبد العزيز (عبدو). وبالمناسة، بقي أبو برّي يناديني أبو عبدو حتى بعد سنة 1986 حينما أصبحت أُعْرَفُ بلقب أبو مرداس.
أقول الصدق: طوال حياتي، لم أرَ مثل أبو بري، ولم أسمع بمثله، ولم أقرأ في الكتب عن رجلٍ مثله. هو كريم جداً، ولكن وصف "كريم جداً"، في تقديري، لا يفي بالغرض، إذ ثمّة أناس كثيرون كرماء جداً مثله، ونحن العرب عندنا سقف لحالة الكرم القصوى، حاتم الطائي، فمَنْ في الكرم كحاتم؟ ما قصدته أنه لا يوجد مثل أبو بري من ناحية الرحمة والعطف والإحساس بمشاعر الكائنات الأخرى.
كان أبو بري يعمل في إكساء الجدران بالإسمنت. يقال لهذه المهنة في معرتمصرين "الزريقة"، ويقال لمن يعمل فيها "مُزَرِّقْ". حينما يقبض من صاحب العمل الأجرة الأسبوعية كان يشعر بعبء ثقيل، ويسعى للتخلص من النقود وإنفاقها على آخر قرش! لم يكن يطيق بقاء أي مالٍ في جيبه. كان أبو بري من أكثر المزرقين مهارة و"معلمية"، إذا كان السعر المتعارف عليه لزريقة المتر المربع ليرة سورية، أبو بري كان لا يقبل بأقل من ليرة وربع. وأصحاب الشغل يوافقون على دفع الزيادة، لأن المعلم أبو بري هو الذي سيقوم بالعمل. لو كان أبو بري يحب جمع المال، لكان من أغنياء البلد.
ذلك اليوم المُمْطر كان يوم جمعة. ذهب أبو بري في الصباح إلى سوق السمك. اشترى كمية من أغلى سمك متوفر، وعاد إلى البيت. تلك كانت عادة متأصلة فيه. إذا ذهب إلى دكان الخضري عبد الرؤوف ليشتري برتقالاً، فإنه يستعرض صنوف البرتقال، ويشتري أغلى نوع، ومن التفاح مثله.. ومن كل شيء.
المرحلة التالية كانت في دعوة مَنْ يصادفُه في طريقه لمشاركته العشاء. وأبو بري حينما يدعوك تشعر أنت بالشفقة عليه، من كثرة ما يكون هو خجلاً منك. المهم. وصلنا في الزيارة إلى مرحلة قَلِي السمك. بقي باب الدار مفتوحاً لسببين. الأول احتمال أن يمرّ أحد من المعارف فيدعوه، بكل خجل، لمشاركتنا الطعام، والثاني، خروج الدخان الناجم عن القلي.
مرّت قطة. وقفت. صارت تموء. حمل أبو بري فرخاً مقلياً من السمك، ووضعه أمامها بكل احترام. القطّة، من شدة فرحها، حملت الفرخ وابتعدت به. الموجودون شُدِهُوا. قال الأول: أعطيتها فرخ سمك بحاله؟ كان بإمكانك أن تعطيها الرأس والذيل والأشياء التي لا يأكلها البشر. قال الثاني: ومقلية؟ لو أعطيتها سمكةً نيئة. وقال الثالث: والله زعلتني يا أبو بري. وقال الرابع: حرام عليك، هذا جنون. وأبو بري يحاول تغيير الحديث ويقول: حيوانة، جوعانة، خطية.. يا الله، تعالوا، خلونا ناكل. وبدأنا نأكل، وبدأت سعادة أبو بري تكتمل.
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...