يوم الاستقلال: الدولة شكلاً ومفهوماً
تجاوزت الاحتفالات الأردنية، الرسمية والشعبية، بذكرى يوم الاستقلال الـ76 الأسلوب التقليدي، أو المستوى المعتاد في كل عام، فكان واضحاً أنّ هنالك قراراً رسمياً بأن تكون الاحتفالات استثنائية، وأن تُمنح الطابع الشعبي والانتشار الجغرافي.
بالضرورة، ثمّة أسباب عديدة وراء هذا التوجّه، في مقدّمتها الدراسات والتحليلات، بل القناعات في أروقة الدولة بأنّ هنالك مشكلة وفجوات في الهوية الوطنية الأردنية، وعدم تظهير كافٍ للأبعاد التاريخية والرمزية والوطنية في الحياة السياسية الأردنية، مقارنةً بدول عربية أخرى، ما انعكس بصورة لافتة على ثقافة جيل الشباب، وعلى علاقة الدولة بالمواطنين، فيبدو وكأنّ الأردن دولة لا تهتم بالرمزية الوطنية، ولا الأيام التاريخية المهمة في تاريخ المملكة، ولا حتى في تعزيز المشاعر الوطنية، ولا أفضل من مثل هذه المناسبات في تعزيزها.
الأردن بمثابة حالة خاصة في العالم العربي، كما لا يخفي خبراء في السياسة الأردنية كثيرون، فولادة النظام السياسي الحديث وتطوّره التبسا بمعطيات تاريخية وسياسية جعلت دوماً نظر الأردنيين إلى الخارج، سواء في الإطار القومي العربي العام، أو حتى في العلاقة مع دول الجوار. وكما يرصد رئيس الوزراء الأسبق، عبد الرؤوف الروابدة، غلب البعد القومي وتغلّب على هوية الدولة ومشاعر المواطنين، وقد سمّيت الحكومة في البداية حكومة الشرق العربي. ومعروفٌ أيضاً أن الأردن كان موطناً للاجئين من أماكن عديدة، وجدوا فيه مأمناً من الحرب والصراع، وصولاً إلى العلاقة التاريخية والاستراتيجية والمصيرية مع القضية الفلسطينية، وبالتالي الاشتباك مع المشروع الصهيوني. وهكذا، فإنّ هنالك مشاغل وقضايا ومستويات رسمت تاريخاً جعل من مشروع بناء الهوية الأردنية الجامعة والواضحة مسألة إشكالية، وهو الأمر الذي انعكس، أخيرا، على السجال حول الهوية نفسها.
المقارنة لدى السياسيين الأردنيين كانت واضحة مع دول عربية أخرى، تجد فيها اختلافات كبيرة وهائلة بين القوى والشخصيات السياسية حول السياسات، وحتى النظام نفسه وشرعيته، لكنها تتفق جميعاً على المشاعر الوطنية تجاه الدولة والافتخار بالتاريخ والرموز والجوامع الوطنية، وهي حالةٌ لا تزال في الأردن غير راسخة ولا صلبة، بل هنالك تيارات سياسية كانت ترى الأردن "كيانا وظيفيا" مرتبطا بالاستراتيجيات الدولية، واتجاهات أخرى لم تترسّخ لديها هوية وطنية، وثقافة لدى شخصيات سياسية احتلت عقولها نظرية المؤامرة، واعتبرت الأردن جزءاً من مشروع كولونيالي، ولا يمتلك مقوّمات الدولة.
لا نستطيع هنا إنكار أنّ المسار التاريخي والمحطات المصيرية التي تعرّض لها الأردن على مر العقود الماضية أوجدت شكوكاً بشأن الاستمرارية والبقاء والصمود، بل كان الرهان في محطات متعدّدة على أنّ هذه الدولة الصغيرة ذات الموارد المحدودة لن تتماسك أمام التحدّيات والعواصف الكبيرة في المنطقة. ولكن على النقيض من كل تلك النظريات والرهانات، كان الأردن أكثر دولة صلبة وقوية، وقامت بما اعتبره كثيرون بمثابة "معجزة سياسية" من خلال عبور كلّ تلك المحطات المصيرية والوجودية، بينما سقطت الدول والأنظمة التي كانت ترى في الأردن "حالةً مؤقتة".
في الخلاصة، هنالك أسباب مفهومة ومعتبرة ومطلوبة لردّ الاعتبار للمناسبات الوطنية والاهتمام بالروح الوطنية وتعزيز الرمزيات والتوافقات والتراث التاريخي، وإظهار التقدير والاحترام لرجالات الدولة والآباء المؤسسين والفخر بما تم إنجازه.
في المقابل، من الضروري أن يتجاور الاهتمام بالأبعاد الظاهرة والشكلية والرمزية للدولة ويتزاوج مع تطوير الإدراك والمعرفة لمفهوم الدولة ذاته، وهو أمرٌ فيه قصور شديد، ليس فقط أردنياً بل حتى عربياً، ما معنى الدولة؟ وما هو جوهر العلاقة بين الفرد والمؤسسات؟ وكيف يمكن أن نرسّخ قيماً مهمة ورئيسية، تتمثّل في "الدستورية" ناظماً للعلاقة بين الدولة والفرد، وحكم القانون وسيادته على الجميع، وقيم العدالة والحرية والمساواة، ومفهوم المواطنة كرابطة قانونية وسياسية وأخلاقية بين الفرد والمؤسسات، مثل هذه المضامين والمفاهيم الفكرية والسياسية والمجتمعية والثقافية هي صنوان مع الأبعاد الرمزية والشكلية لترسيخ حقيقي لمبدأ الدولة الوطنية وقيمتها ورابطة الانتماء الحقيقي الجوهري، وهي الأساس الذي ينبني عليه الولاء الحقّ وبناء المشاعر الوطنية والافتخار العميق بهذه العلاقة.