يسمحون لنا أن نشتم إسرائيل والديمقراطية
ذهب رئيس الوزراء الكندي، جاستين ترودو، قبل يومين، لتناول وجبة العشاء في أحد المطاعم، حين اجتمع عليه بعض مناصري القضية الفلسطينية واتهموه بالقتل، لأنه يقف في صفّ إسرائيل، ولا يلقي بالا إلى المجازر اليومية التي يُحدثها الاحتلال الإسرائيلي. لم يفعل ترودو شيئا سوى أنه انسحب من المكان بهدوء، ولم تعتقل الشرطة أحدا سوى رجل لكم أحد مرافقي ترودو لأنه حدّق به بغضب. أفرج عن الرجل لاحقا، ومضى الأمر بسلام. ... تخيّلوا لو حدث هذا في دولة عربية، لو اعترض بعض الغاضبين طريق أي مسؤول عربي، ماذا كان سيحدُث؟ هذا لو افترضنا جدلا أن هناك مسؤولاً عربياً في منصب كبير يقبل أن يذهب، بشكل طبيعي، إلى مطعم ما من دون أن يمنع البشر العاديين من دخول المطعم، ومن دون أن يحاط هو والمطعم والشارع الذي يقع فيه المطعم بعدد كبير من قوات الحماية ورجال الأمن والشرطة.
في حادثة دالّة أخرى، وجّه سفراء وعاملون في السلك الدبلوماسي الفرنسي رسالة احتجاج مشتركة إلى قصر الإليزيه، وإلى الرئيس ماكرون، يستهجنون فيها الموقف الفرنسي الرسمي من القضية الفلسطينية، ويعتبرونه انحيازا، لا يتناسب مع قيم الجمهورية الفرنسية، لإسرائيل التي ترتكب مجازر يومية بحقّ الشعب الفلسطيني. أيضا لم يعاقب أحدٌ هؤلاء، لا بالسجن ولا بالفصل من السلك الدبلوماسي. ونشرت الرسالة وكالة الأنباء الفرنسية، ووزّعتها على وكالات الأنباء العالمية. تخيلوا أيضا ماذا سيحدُث لو وجّه سفير عربي رسالة مشابهة، يحتجّ فيها على موقف نظامه من قضية فلسطين؛ أظنّكم توافقون أن أحدا لا يتجرّأ على مجرد التفكير بهذا، قد يفعلها إن خرج هو وعائلته كلها خارج البلد أولا، وآمّن على حياته وحياة عائلته من الانتقام.
عُزلت في بريطانيا وزيرة الداخلية من منصبها، لأنها طلبت من الشرطة البريطانية قمع المتظاهرين المؤيدين لفلسطين. وردّا عليها خرج ألفا شرطي بريطاني بلباسهم الرسمي في مظاهرة يحملون فيها الأعلام الفلسطينية. لم يكن أمام رئيس الوزراء البريطاني (المؤيّد لإسرائيل)، ريشي سوناك، سوى اتخاذ هذا القرار، كي يخفّف الغضب الشعبي البريطاني غير المسبوق من المجازر الإسرائيلية. كما أن خلافا حادّا حصل في مجلس العموم حول ما على ملك البلاد قوله في خطابه المنتظر المتعلق بغزّة. ...، علينا أن نحلم بمواقف كهذه في بلادنا، قبل أن نشتم ديمقراطية الغرب.
في أميركا استقال نواب ودبلوماسيون وموظفون كبار في البيت الأبيض والكونغرس، احتجاجا على الدعم الأميركي المشين لجرائم إسرائيل. وانقسمت الأحزاب في مواقف أعضائها، وحصلت نقاشات طويلة وخلافات حادّة بسبب الموقف من غزّة جعلت حتى الصهيوني بلينكن يتراجع عن موقفه قليلا.
لم يُبد أي مسؤول عربي موقفا مغايرا لموقف نظامه من الحرب، لا يتجرّأ أي فنان أو مثقف أو مسؤول أو مواطن على الدعوة إلى التظاهر أو الاحتجاج، ولن يتجرأ المواطنون العاديون على فعل هذا، ذلك أن المصير المباشر لمن يفعل ذلك الاعتقال أو الاختفاء. ونحن، كما يقول التاريخ والجغرافية، أهل الضحايا وآباؤهم وأمهاتهم وإخوتهم. بينما لا تتوقف المظاهرات في بلاد العالم، حتى في أشد الدول راديكالية في دعمها إسرائيل؛ ذلك أن للشعوب رأيها المعترض على الرأي الرسمي لحكوماتها وأنظمتها الحاكمة، ومهما تمادت هذه الحكومات في محاولات قمعها الأصوات الداعمة فلسطين، ثمّة عتبات سوف تمنعها من التمادي في القمع، ثمّة ذاكرة جمعية تشكّلت على احترام حقّ حرية الرأي واعتبار المساس به إهانة واعتداء مباشرا لن تسكت عنه هذه الشعوب.
لم يستطع النظام العالمي الحاكم فرض رأيه على شعوبه، ولن يستطيع فرض جرائم إسرائيل بوصفها دفاعا عن النفس، ولن تمرّ هذه الأحداث بسلام، ثمّة ما يتغيّر في العالم، يتغيّر لصالح الحقّ والحقيقة، لصالح الضحايا، ضد الظلم والقتل واستعراض القوة والإجرام. وبينما تعجز حكومات الغرب عن فرض رأيها على شعوبها تسمح لنا حكوماتنا العربية بأن نشتم إسرائيل شرط أن نشتم الديمقراطية.