يستشهد الفتى في جنين مرَّتَين

03 سبتمبر 2024

(هاني زعرب)

+ الخط -

ما نحن بصدده محاولةٌ أولى من نوعها لبناء إطارٍ نظريٍّ لصورةٍ غير مكتملة المعالم والخطوط، والألوان، تكوّنت ملامحُها عبر حكايات شفوية متناقلة في المجال المحلّي العام داخل مدينة جنين، وفي محيطها الاجتماعي اللصيق، على ألسنة أمّهاتٍ وآباءَ قليلي الكلام، وأقاربَ وجيرانٍ يُؤثرون الصمت لدواعٍ أمنية مفهومة، أو لأسباب من خارج حيّز الإدراك بأهمّية تشكّل حالةٍ وطنيةٍ نادرةِ الحدوث في مجرى التطوّرات الكفاحية المتراكمة، والظواهر الاجتماعية الطارئة، في سجلّ الصراع الطويل.
في تتبّع معالم هذه الحالة المتداولة بلا تأصيل، المتروكة للثقافة الشفوية الشعبية القائمة على النقل والقصّ والقيل والقال، يجد الباحثُ المُدقِّقُ أو المُحلّلُ السياسيُّ نفسَه من دون أرضية معرفية متماسكة يقف عليها، مثل وجود مسح اجتماعي موثوق، أو تحقيق صحافي استقصائي منشور، أو أيّ مادّة مكتوبة، تُشخّص ظاهرة "استشهاد الفتى مرَّتَين" هذه، التي لم يصحّ توثيقها في حمأة القتال، إن لم نقل إنّه من غير المفيد استقصاء دوافعها وبيان دينامياتها وتعليل روافعها السياسية، ولا سيّما في هذه الآونة من الحرب التي تضطرم أكثر وتتّسع تدريجياً.
غير أنّ ما يُحفّز المرءَ على القيام بهذه المحاولة الشاقّة، والجري وراء مكنوناتها الدفينة، بحثاً عن ينابيع ظاهرة الاستشهاد مرَّتَين في جنين، ناهيك عن شقيقاتها شمال الضفّة الغربية وجنوبها، هو ما راح يتواتر أخيراً من أحاديث للإعلام، أدلت بها شخصيات اعتبارية مرموقة، ورجالات من عالم الأكاديميا والاجتماع والثقافة والعلوم، فضلاً عن مراسلي الصحف والشبكات الإخبارية، لماماً وعلى نحو مُتفرّق، عن وجود هذه الحالة المثيرة للانطباع، حالة أخذت تتجلّى أكثر من ذي قبل مع اشتداد المواجهات في جبهة الضفّة المحتلّة، جنباً إلى جنب، وبالتوازي مع احتدام حرب الإبادة على غزّة.
ومع أنّه يمكن العثور على مثيلات تحاكي هذه الظاهرة في أزمنة سابقة من تاريخ الكفاح الفلسطيني، إلّا أنّ ما نحن بصدده في هذه العجالة هو أكثر وضوحاً واكتمالاً مما سبق، بفضل زيادة درجة المعرفة العامّة، وتحسّن القدرات الذاتية على النقل والسرد والتدوين، من جانب الضحايا وذوي الصلة المباشرة بالوقائع، التي كانوا هم أنفسهم شهوداً عليها، إذ تبدو جنين، المدينة والمُخيّم، أكثر من أخواتها، حاضنةً متميّزةً لأبطال هذه الحكاية، التي لا يستطيع خيال روائي الإتيان بمثلها.
بالعودة إلى ينابيع هذه الحالة، التي ترقى إلى ضفاف ظاهرةٍ كفاحيةٍ فلسطينيةٍ مضيئةٍ، نجد أنّ جنين، والمُخيّم القائم في أكنافها، قد شهدا معاً قبل 22 سنة أشدّ وأطول وأبلغ معركة خاضتها المقاومة خلال إعادة احتلال الضفّة الغربية، أبلى فيها المقاتلون البلاء الحسن، قاتلوا بشراسة منقطعة النظير أذهلت الغزاة، وأجبرتهم على الانكفاء بعد أيّام دفع خلالها الاحتلال خسائرَ باهظةً في الأرواح بلغت 28 قتيلاً، وهو ما شكّل منذ ذلك الوقت نُدبةً في الوعي الإسرائيلي.
في تلك المعركة التي انتزعت فيها المدينة والمُخيّم، عن جدارة تامة، لقب "جنين غراد"، استشهد عشرات من المقاومين الشباب، وتركوا وراءهم أولاداً، بعضهم في سن الفطام، وبعضهم أجنَّة في أرحام الأمّهات، حمل هؤلاء بعد ولادتهم أسماءَ آبائهم أو أعمامهم أو الأخوال الشهداء، تربّوا في أجواء المقاومة، كبروا في مناخ وطني شديد المضاء، ورثوا عن أصلابهم الصلابة والبنادق والرجولة والروح العصية على الانكسار، وها هم يعودون إلى ميدان المعركة إياه من جديد، بالكنية ذاتها وبالأسماء نفسها، يستشهد الواحد منهم للمرّة الثانية، ويصعد محمّدُ الابن إلى السماء، ليقابل محمّداً الأب وجهاً لوجه.
رغم ندرة المعطيات، وشدّة الافتقار إلى سِيَر أبطال ملحمة "طوفان الأقصى" في قطاع غزّة، واليوم في الضفّة الغربية، فإنّ السيرة الذاتية لبعض هؤلاء الفتية، وهم جميعاً في أوائل العشرينيات من العمر، خصوصاً في جنبن ونابلس وطولكرم وطوباس، أمثال محمّد جابر (أبو شجاع) وإبراهيم النابلسي وباسل الأعرج وغيرهم ممن استشهدوا مرَّتَين في خضمّ هذه المواجهات كلّها، التي تجلّ عن الوصف، هم الأبناء الذين ظلّوا مسكونين بآبائهم عقدين وأكثر، فبدا الابن وهو يتنكّب درب أبيه كمن كان يكتب بخطّ يده (حرفياً) نصّ شهادة ثانية في سفر الخلود.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي