يحدُث في مصر الآن
كان الشأن المصري من القوّة والكثافة بحيث يصعب تجاوزُه عربيا وعالميا، كما أنه من الازدحام وكثرة التفاصيل بحيث يصعًب على أصحابه تجاوزُه إلى غيرِه، أو الإحاطة به من جميع جوانبه. تمتلك الدولة المصرية وحدَها أكثر من عشرين قناة تلفزيونية، إضافة إلى عشرات الصحف القومية والمحطّات الإذاعية، ناهيك عن الصحف "الخاصة" وما يقرب من مائة فضائية "مستقلة"، وهي نوافذ تطلّ على ما يسمح به الرقيب الأمني، من دون الممنوعات، التي احتاجت إلى استغلال المعارضة المصرية مواقع التواصل الاجتماعي، قبل ثورة يناير 2011، وإطلاق أضعاف هذه النوافذ في عامي الثورة وحكم المجلس العسكري والإخوان المسلمين.
هنا، أودّ الإشارة إلى أن مصر تشهد "انتخابات" رئاسية، هذه الأيام. وهو خبرٌ عرفه قطاع من المتابعين للشأن المصري من تغريدات مؤيدي الرئيس عبد الفتاح السيسي التي تجمع بين التوسّل إلى الجماهير للذهاب إلى اللجان "من أجل مصر" و"من أجل مستقبلٍ أفضل"، والإشارة، في الوقت نفسه، إلى الإقبال الجماهيري الكبير والكثيف والمفاجئ وغير المسبوق. من الطرائف التي تستحقّ التسجيل هنا أن مؤيدي السيسي استخدموا القضية الفلسطينية لتسويقه، واعتبروا انتخابَه نصرة للقضية، ومساندة جماهيرية لإيقاف مشروع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. (وكم ذا بمصر من الـ "أي حاجة").
لا يحتاجُ الأمر إلى حشد أدلةٍ أو توثيق شهاداتٍ أو عقد مقارناتٍ بين ما يحدُث اليوم، تماديا في تركيع المصريين، وما شهدته مصر عام 2012 من انتخاباتٍ "حقيقية"، تابع العالم معاركها، وترقّب نتائجها، فالأمور واضحة أكثر من اللازم، ولا يعدو اعتبار ما يحدث الآن انتخابات، واعتبار نتائجها، المعدّة سلفا، "شرعية" سوى نقطة سوداء أخرى تُضاف إلى سجلات التواطؤ الدولي مع جرائم الاحتلال في منطقتنا، سواء الإسرائيلي في غزّة، أو المحلي في مصر. لا شيء هنا مدهش أو مفاجئ، لا أداءات الدولة المصرية ولا وساخات المجتمع الدولي، إنما غياب "الحدث المصري"، عن صدارة اهتمامات المتابعين، ودرجة "بهتانه" بفتح الباء وضمها، إلى حد "استخسار" مصريين كثيرين مجرّد الإشارة إليه، على حساباتهم الشخصية، ولو على سبيل التندّر والسخرية ومجاراة الهزل بهزل، كما هي عادتنا.
يتحدّث كثيرون عن تراجع الدور المصري في الإقليم منذ بداية الحرب في غزّة. وهو التراجع الذي لا يتحمّل النظام المصري الحالي مسؤوليّته وحده، فقد بدأ منذ توقيع أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد، لكنها المرّة الأولى التي يشارك فيها النظام المصري، في حصار الفلسطينيين، وتجويعهم، وحرمانهم من مرور المساعدات الإنسانية التي تضمن بقاءهم واستمرارهم أو استقبال جرحاهم للعلاج الفوري (إلا بإذنٍ مكتوبٍ من إسرائيل)، فهل يصلح ذلك تفسيرا لانصراف "العالم" عن انتخاباتٍ رئاسيةٍ تجري في البلد، الذي كان، الأكثر أهمية في الإقليم؟ في تقديري، إن حرب غزّة وانشغال المصريين بها، وتعاطفهم معها، وانزعاجهم من موقف نظامهم السياسي منها ليس كافيا أو مقنعا لتفسير (أو تبرير) غياب الانتخابات الرئاسية المصرية عن أي اهتمام "حقيقي"، محلّي أو عالمي، غير مصنوع من "الكتائب الإلكترونية"، بتعبير السيسي.
تجاوزت الدولة المصرية، مع نظامها الحالي، كونها غير مهمّة أو مؤثرة إقليميا، إلا بمقدار ما تمنحه لها الجغرافيا من إمكانات خدمة إسرائيل، في صراعها مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إلى كونها "دولة بلا أمل"، لا أحد ينتظر منها أو يتوقّع لها أيّ شيء، سوى مزيد من التدهور في كل شيء... في الاقتصاد... في سعر العملة... في غلاء المعيشة... في خدمات التعليم... الصحة... في ملف سد النهضة الإثيوبي وخطر نقصان حصّة مصر من ماء النيل.. في الديون المتراكمة.. في السياسات العشوائية، بلا خطة أو رؤية واضحة.. في خطابات إعلام النظام التي تدفع، ضمانا لاستمراره، إلى مزيدٍ من الانقسام الاجتماعي.. الاستقطاب السياسي.. التطرّف الديني.. الكراهية.. العنف.. ما جعل من مغادرة البلاد هدفا لدى آلاف المصريين، وأملا لدى الملايين منهم. "لا أمل"، هذا هو كل شيء، مع الأسف.