يحدث في مصر الآن

27 يونيو 2014

الصحفيون الثلاثة في قفص المحاكمة المصرية (Getty)

+ الخط -

وحدهم الفراعنةُ من بين أصحاب الحضارات القديمة كانت لديهم آلهةٌ للعدالة. ولا شطط في الزعم، هنا، أن هذه مسألةٌ توحي بأنَّ بحث أشقائنا المصريين الدائم عن العدالة أصيلٌ وعميق. ولا تزيُّدَ في الذهاب، هنا أيضاً، إلى أن نخبةً مصريةً مكينةً أنجزت في موضوعات القانون والدسترة والتشريع والقضاء، منذ عشرينيات القرن الماضي إلى ستينياته وبعض سبعينياته، ذخيرةً شديدة الأهمية، في انتصارها لقيمتَي الحق والعدالة، ونظنُّها تمثّل (مع نظيرتها المغربية) مدونةً عربيةً حضاريةً ثمينة. ولأنها كثيرةٌ المحطاتُ والوقائعُ التي أثبت فيها القضاء المصري، العتيد والعتيق، استقلاليته ووفاءَه للأصول ولإنصاف الضحايا، فإن أرطالاً ثقيلةً من الاستهجان والدهشة تغشانا، ونحن نتابع قيعاناً يهوي فيها هذا القضاء، منذ توطّدت سلطة عبد الفتاح السيسي، وأذرعها الأمنية والعسكرية والإعلامية في مصر، قبل عام.
نحن مُطالَبون بأن نصدّق أن ثلاثة صحافيين، (أحدهم أسترالي)، يعملون في قناة الجزيرة، نشطوا في خليةٍ ضد مصر وأمنها وأمانها، وكانوا يدعمون، في تغطياتِهم الإخبارية، جماعةً إرهابية، لنقتنع بحبسهم سبع سنوات. تماماً، كما علينا أن نصدّق أن زميلهم عبد الله الشامي، الذي احتُجز عشرة أشهر، إنما كان يفتئت على فائض الديمقراطية الذي يرفلُ فيه المصريون من نعيم السلطة الرشيدة الحاكمة في بلدهم، منذ حركة عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز الماضي، وأن هذا الشاب ما غادر السجن، إلا تلطّفاً من هذه السلطة الرحيمة، عنايةً منها بصحته. علينا، أيضاً، أن نقتنع بأن جماعة الإخوان المسلمين إرهابية، لأن قراراً حكومياً اعتمد ذلك، ثم لحق به قرارٌ قضائي، من دون أن تجهر وزارة الداخلية المصرية بدلائلَ مؤكدةٍ عن ضلوع عناصر من هذه الجماعة بأي جريمةٍ إرهابيةٍ استهدفت الشرطة والجيش في الشهور الماضية. وفي البال أن واقعة تفجير مركز الأمن في المنصورة، وهي جريمةٌ إرهابيةٌ مدانةٌ من دون تأتأة، أوردت الوزارة المذكورة أن نجل عنصر إخوانيٍّ متورّط فيها. وكان باعثاً على الضحك، الذي كالبكاء، أنَّ عقلاً استراتيجياً، اسمه محمد حسنين هيكل، تثرثر معه لميس الحديدي بشأن هذه الجريمة، فيستهجن البحث عن دليلٍ على مسؤولية "الإخوان" عنها، طالما أنَّ هذه الجماعة مَن قتلت القاضي أحمد الخازندار في 1948!
كنّا نحسد زملاءَنا المصريين في عهد حسني مبارك، لا سيما في عشريّته الأخيرة، على ما توفّر للصحافة في بلدهم من حرياتٍ واسعة، وعلى ما استطاعت هذه الصحافة أن تحرزه من حيّزٍ في فضاء الجهد المدني العام، وبفاعليةٍ نشطة، وهذا ما ساق جلاوزةً من الشرطة إلى أقفاص المحاكمات، لانتهاكهم عماد الكبير وغيره. وكنّا نغبط مصر على جرأة عبد الحليم قنديل وإبراهيم عيسى، مثلاً، في تصعيد اللغة والنبرة ضد الرئيس وعائلته، وضد السلطة وأجهزتها. لم يعد أمرنا كذلك، ونحن نرى، منذ عام، ما صار عليه عيسى وقنديل من بؤسٍ وخفّة. صرنا نشفق على مصر من الشناعة الوفيرة في الإعلام الذي فيها، مترعاً بلغة التشفّي والقتل والتحريض وتقسيم الناس، يلتحق بذيليّةٍ تافهةٍ بحاكم، لا مُنجزَ لديه سوى تعظيم حربٍ مقيتة على الإخوان المسلمين وأنصارهم، ثم على مناصري الديمقراطية ومسارها.
رحم الله إسكندر مكاريوس، صاحب مجلة اللطائف. كتب أن "الصحافة حرة في حدود القانون، وإننا في عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وصاحبة الجلالة، الصحافة، حرة في نشر ما يحلو لها من صور أصحاب وصاحبات الجلالة، ولتفعل بنا القوة ما تشاء". كتب هذا في 1937، معلناً رفضه أمر الملك فاروق عدم نشر صورته وصور والدته الملكة نازلي، إلا المعتمدة منه، ولم يعاقب مكاريوس إلا بمنع مجلته من حضور حفلاتٍ تُدعى إليها الصحف في القصر الملكي.
كأن هذه السطور تورّطت في الثناء على نظامي مبارك وفاروق الفاسدَيْن، وهي تهجو نظام السيسي! .. لمَ لا؟ وأصدقاءٌ مصريون صاروا في خجلٍ من خرابٍ يستبدّ بالقضاء في بلدهم، وآلهة العدالة القديمة حزينة، وصحافيون يحبسهم هذا القضاء سنواتٍ من دون حرج، ووزيرٌ، اسمه جابر عصفور، لا يرى غضاضةً في قتل الإخوان المسلمين!

 

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.