يحدث في "العدالة والتنمية" المغربي
لم تمرّ نهاية الأسبوع الذي ودعناه مروراً عادياً في أجندة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في المغرب. كانت مناسبة لـ"ترسيم" نقاش فريد من نوعه، وله حمولاتٌ فيها جوانب كثيرة غير مسبوقة في التاريخ السياسي الحديث للحزب الذي حظي بثقة المغاربة لتشريعيتين متتاليتين. ففي ذلك اليوم صدر بلاغ (بيان) عن مكتب المجلس الوطني، وهو أعلى هيئة تقريرية بين مؤتمرَيْن وبمثابة برلمان الحزب، يطَّلع من خلاله المغاربة عموماً، والطبقة السياسية خصوصاً، على تخصيص الاجتماع "لتسليم مذكرة مطلبية إلى رئيس المجلس الوطني التي تقدم بها بعض أعضاء الحزب وشبيبته، الرامية إلى مطالبة المجلس الوطني بتفعيل المادة الـ24 من النظام الأساسي للحزب، بالدعوة الى عقد مؤتمر وطني استثنائي".
لم تردّ الأمانة العامة للحزب التي يرأسها سعد الدين العثماني (رئيس الحكومة) على الطلب، لكن قيادة الحزب في الهيئة التقريرية لم تتجاوزه أو تتغاضَ عنه، كذلك فإنها سلكت المسطرة التنظيمية الدقيقة التي قد تكون المرة الأولى التي تُفعَّل وتُطبَّق، فهذه هي المرّة الأولى فعلاً التي يجد الحزب نفسه أمام طلبٍ كهذا في وضعٍ استثنائي، يتميز بسنة انتخابية ونقاشات، قد تبدو سابقة لأوانها حول الاقتراعات! وعليه، كُلِّفَت رئيسة اللجنة السياسية في الحزب متابعة الأمر كما تقتضيه المسطرة من خلال النقاش داخل اللجنة، محطة أولى في ما يبدو، قبل توسيع القراءة في الحزب كله. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: هل هناك قراءتان متناقضتان لواقع الحزب الأول في المغرب، ومن ثمّة لواقع السياسة في البلاد، أم هي قراءة واحدة لما يقع خارج الحزب من موقعين مختلفين داخله؟ لماذا وجد الحزب نفسه في وضعية تدبير (إدارة) الاستثناء، والحال أنه الثابت الكبير في السياسة الحكومية والبرلمانية، مدة تزيد على تسع سنوات، منذ فوزه على متن موجة الربيع العربي في 2011؟
تجاوز "العدالة والتنمية" محنة لا تتجاوزها الأحزاب المغربية عادة، تتعلق بما ينتج من تشكيل الحكومات أو الانتخابات أو الموتمرات من تصدّعات
يقتضي الجواب الرجوع إلى نقاش سبق أن أُثير على هامش لقاءات شبيبة الحزب، وجديدها اللقاء الوطني، في أغسطس/ آب الماضي وسبتمبر/ أيلول الحالي، وعادة ما تكون الشبيبات (جمع شبيبة) في الأحزاب القوية، التي تمتد في المجتمع مختبراً حقيقياً لما يتفاعل في البلاد، كما هو حال الشبيبة الاشتراكية التي كانت رأس الحربة في كل التطورات، سلباً وإيجاباً، بالنسبة إلى الحزب الذي سبق "العدالة والتنمية" في قيادة البدائل السياسية. وقد بدأ هذا النقاش صامتاً وداخلياً، بعد إعفاء عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة الثانية، ثم من ولاية ثالثة على رأس حزب العدالة والتنمية، وذلك كله إيذاناً بتشنجات قوية داخل التنظيم، أسعفت فيها التربية "الدعوية" للمناضلين، إضافة إلى الحوار الداخلي في تضميد الضربة وامتصاص الصدمة التي خلفتها إقالته، بعد أن عجز عن فرض تصوّره لتشكيلتها.
هناك دعوة إلى "تقليص" مشاركة الحزب في الانتخابات، وهذا مقتضى سياسي اعتمده الحزب إبّان بداياته وأيام الحسن الثاني، في لَجم شهيته الانتخابية
داخلياً: كانت للحوار مخرجاته الكثيرة، لكنه في العمق أفاد في تلحيم الحزب أكثر من تقديم الأجوبة الساخنة على ما وقع. وفي هذه، أفلح الحزب في تجاوز محنةٍ لا تتجاوزها الأحزاب المغربية عادة، تتعلق بما ينتج من تشكيل الحكومات أو الانتخابات أو الموتمرات من تصدعات وتشرذمات... إلخ، سببها توزيع سلطات ذاتية (من مناصب قيادية) أو مؤسساتية (ما يخص المناصب). وساعد المناخ الدستوري التدبيري الحديث للإدارة والتعيينات في وجود طاقات الحزب في دواليب الدولة والمؤسسات المنتخبة بقوة السيادة الشعبية، دون أن يكون هناك انحسار (بلوكاج) قد يولد الانفجار، كما حدث عندما وجد كثيرون أنفسهم طاقات فائضة عن أحزابهم. ونقطة الخلاف، في هذا الباب، ما عبّر عنه نائب رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، بالقول: "إننا لسنا مسؤولين عن تدبير الخمس سنوات الأخيرة"، أي الولاية الحالية تلك التي تشكلت حكومتها من دون بنكيران. وهو مضمر سياسي، يرمي إلى عدم تحميل الحكومة التي يقودها حزبه مسؤولية النتائج غير المُرضية، ثم العجز والشلل الذي طبعها في ملفاتٍ كثيرة، وربما استباق الحكم الذي قد تصدره الصناديق على عملها.
النقطة الثانية، في جدول الخلاف، تخص ما راج في الكواليس، ثم انتشر كالنار في الهشيم، أن هناك دعوة إلى "تقليص" مشاركة الحزب في الانتخابات، وهذا الأمر، بالنسبة إلى من لا يعرف دهاليز السياسة المغربية، مقتضى سياسي اعتمده الحزب إبّان بداياته وأيام الملك الحسن الثاني، في لَجم شهيته الانتخابية، حتى لا تتجاوز التوازن الذي كانت تقتضيه البلاد وقتها.
رسائل طمأنة سرعان ما بدأت تعطي عكسها، إذ قرأ فيها كثيرون "أن الحزب الذي يتفاوض قادر على أن يحكم وحده، إذا هو لم يقلِّم مشاركته (!)"
وقد مرّت عليه قرابة عشرين سنة، على الأقل، وهو أمر يبدو غريباً بالنسبة إلى العهد الجديد، ويحيل على مضمراتٍ كثيرة، منها أن قوة الحزب، وقدرته على الاكتساح تخيف مكونات ما داخل البلاد، وأنه يبعث لها بخطاب لطمأنتها، إلى أن الحقل السياسي ما زال مفتوحاً أمام كل المكونات الموجودة، كذلك فإنه يضمر ما هو أعمق، أي إنه هو المفاوض الوحيد للدولة بشأن مستقبل الخريطة السياسية!
من غريب السياسة المغربية في الوقت الحالي أن الدعوة إلى "الاستثناء" هي التي تأتي بتطبيع العلاقة مع مكونات الحقل السياسي، بما فيها الدولة. ومن الغريب أيضاً، أن حزباً، هو عصب الحكومة، يريد التفاوض على حكومةٍ قادمةٍ ما زالت في علم الغيب. لكن الثابت أن التحول من حزبٍ سعى دوماً إلى تطبيع وضعه، حتى إنه اعتبر أن لمهمة بناء الثقة مع مؤسسات الدولة، الأولوية على الإصلاح السياسي. في فترات سابقة، كان الحزب يسعى إلى العمل بـ"حالة الاستثناء الداخلي"، وفيها ما يغري المتتبعين بالقراءة، في حقل سياسي يتأثر، كثيراً أو قليلاً، بما يروج في الدائرتين، العربية والإقليمية. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن حضور الوضع في تونس لا يخلو من إنذار، إذ إن حزب النهضة، القوي مجتمعياً وانتخابياً، والذي يوجد في حقل ديموقراطي شبه مكتمل، أقله في النصوص، يقبل حكومة كفاءات وتكنوقراط، وهو الذي كان من الأوائل في الربيع العربي، وقائد الثورات الجديدة، يشكل الآن نموذجاً للامتحان السياسي.
غير أن رسائل الطمأنة سرعان ما بدأت تعطي عكسها، إذ قرأ فيها كثيرون "أن الحزب الذي يتفاوض قادر على أن يحكم وحده، إذا هو لم يقلِّم مشاركته (!)". وبالتالي، "ذلك معناه أن المغرب يوجد عشية انهيار النظام الحزبي المغربي بكليته، الذي ظل قائماً منذ الاستقلال، ثم استقر على ما استقر عليه منذ التسعينيات، وبالتالي انبثاق نظام جديد يستدعي الدخول إليه بشكل كامل تفاوضاً قبيل الانتخابات". وهي مسؤولية تفوق التوازنات الداخلية لأي قوة سياسية، قد تغير قواعد الاشتباك الديموقراطي، لكنها لا يمكن أن تبشّر بنهاية نظام سياسي، لمجرد تحليل موقعها فيه، سلباً أو إيجاباً. والمؤكّد أن ما قد يفرزه واقع "العدالة والتنمية" سيؤثر بالواقع الحزبي المغربي، لأنه قوة سياسية منظمة ومهمة، كذلك فإنه الحزب الذي يقود الحكومة في إحدى أدقّ المراحل التي تعرفها البلاد، بل البشرية.