وظائف الحكم العادل الرشيد
لا يزال عبد الرحمن الكواكبي يمارس تنبيهاته وإشاراته الدقيقة والعميقة، مشيرا إلى أهم خصائص الحكم الرشيد وسماته، بنية وجوهرا، دورا ووظيفة، ليؤكّد، من خلال منظومة الوظائف الكلية، الاهتمام بالجانب البنائي المقرون بوظائفه العادلة والفاعلة؛ إن جوهر الوظيفة الأمنية، بنية ووظيفة، هي الجديرة بتأسيس تلك القدرات الحافزة للقيام بتلك الوظائف، في جوهرها وبمقتضاها وشروطها الأساسية والتأسيسية، فتضمن ليس فقط القيام بها بحقها وعلى شروطها؛ ولكنها كذلك تكون محصنةً ومؤمنةً في أدائها، ضامنة عدم انحرافها أو فسادها؛ جوهر الوظيفة الأمنية وتحديد مسيرتها ومساراتها، فيهيئ الحكم الرشيد البيئة الحاضنة الآمنة التي لا تكتمل أركانها إلا ضمن بيئةٍ قانونيةٍ لازمةٍ وملزمة، في سياقٍ جامعٍ لإقامة استراتيجية تأمين العدالة، خصوصا في أهم أشكال تأسيسها التي تتعلق بالعدالة القضائية؛ "مبحث حفظ الأمن العام هل يكون الشخص مكلَّفاً بحراسة نفسه ومتعلَّقاته؟ أم تكون الحكومة مكلَّفة بحراسته، مقيماً ومسافراً، حتى من بعض طوارئ الطبيعة بالحيلولة لا بالمجازاة والتعويض؟ حفظ السُّلطة في القانون هل يكون للحكومة إيقاع عمل إكراهي على الأفراد برأيها؛ أي بدون الوسائط القانونية؟ أم تكون السُّلطة منحصرة في القانون، إلا في ظروف مخصوصة ومؤقَّتة؟ مبحث تأمين العدالة القضائية هل يكون العدل ما تراه الحكومة؟ أم ما يراه القضاة المصون وجدانهم من كلِّ مؤثِّر غير الشرع والحق، ومن كلِّ ضغطٍ حتى ضغط الرأي العام؟".
الركن الركين في إقامة المعنى والمبنى للوسط الوظيفي لبناء الحكم الرشيد ووظائفه إنما يتمثل في تلك البيئة القانونية الناصعة الواضحة المحددة المبينة القادرة على تمكين استراتيجية متكاملة وفاعلة للعدالة وسيادة القانون، بحيث تعين الأعمال والوظائف والأدوار بشكل محدّد لا لبس فيه ولا ثغرات، تلتمس لتبدّد أصل تلك الوظيفة القانونية، وتمكين قدراتها في صياغة علاقات المجتمع، وفق منظومةٍ من الحقوق والواجبات والوظائف والالتزامات؛ وذلك كله لا بد أن يرتبط بإجاباتٍ كاملةٍ واضحةٍ جامعةٍ حاسمة، لا تعرف التلوّن أو التمويه أو التغرير أو مسارب الزيف والتزوير للحياة المدنية والاجتماعية وأصولها؛ كيف تُوضع القوانين؛ ما هو القانون وقوته وتوزيع الأعمال والوظائف والمعايير التي تقوم عليها؛ عمليات بعضها من بعض، تتكامل في وجهتها وتتكافل في آثارها ومآلاتها.
البيئة القانونية المؤسسة لاستراتيجية العدالة الرصينة لا يمكنها أن تحكم أصول فاعليتها وتأثيرها إلا ضمن تصوّراتٍ تكمل أركان بيئة الحياة
"مبحث تعيين الأعمال بالقوانين هل يكون في الحكومة من الحاكم إلى البوليس- من يُطلَق له عنان التَّصرف برأيه وخبرته؟ أم يلزم تعيين الوظائف، كليّاتها وجزئياتها، بقوانين صريحة واضحة، لا تسوّغ مخالفتها ولو لمصلحة مهمة، إلا في حالات الخطر الكبير؟ مبحث كيف توضع القوانين هل يكون وضعها منوطاً برأي الحاكم الأكبر، أو رأي جماعةٍ ينتخبهم لذلك؟ أم يضع القوانين جمعٌ منتخبٌ من الكافّة، ليكونوا عارفين حتماً بحاجات قومهم، وما يُلائم طبائعهم ومواقعهم وصوالحهم، ويكون حكمه عامّاً، أو مختلفاً على حسب تخالف العناصر والطبائع وتغير الموجبات والأزمان؟ مبحث ما هو القانون وقوَّته، هل القانون هو أحكام يحتجُّ بها القوي على الضعيف؟ أم هو أحكامٌ منتزعةٌ من روابط الناس بعضهم ببعض، وملاحظٌ فيها طبائع أكثرية الأفراد، ومن نصوصٍ خاليةٍ من الإبهام والتعقيد، وحكمها شامل كلّ الطبقات، ولها سلطانٌ نافذ قاهر مصون من مؤثِّرات الأغراض، والشفاعة، والشفقة. وبذلك يكون القانون هو القانون الطبيعي للأمَّة، فيكون محترماً عند الكافّة، مضمون الحماية من أفراد الأمة؟ مبحث توزيع الأعمال والوظائف، هل يكون الحظُّ في ذلك مخصوصاً بأقارب الحاكم وعشيرته ومقرَّبيه؟ أم توزَّع كتوزيع الحقوق العامَّة على كافَّة القبائل والفصائل، ولو مناوبة مع ملاحظات الأهمية والعدد؛ بحيث يكون رجال الحكومة أنموذجاً من الأمَّة، أو هم الأمَّة مصغَّرة، وعلى الحكومة إيجاد الكفاءة والأعداد ولو بالتعليم الإجباري؟".
القانون هو القانون الطبيعي للأمَّة، يكون محترماً عند الكافّة، مضمون الحماية من أفراد الأمة
هذه البيئة القانونية المكينة المؤسسة لاستراتيجية العدالة الرصينة لا يمكنها أن تحكم أصول فاعليتها وتأثيرها إلا ضمن تصوّراتٍ تكمل أركان بيئة الحياة الاجتماعية والثقافية والقيمية والدينية والاقتصادية والتنموية والعمرانية والتعليمية والتربوية؛ من مباحث حفظ الدين والآداب؛ والتفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليمية؛ وكذلك مباحث الترقّي في العلوم والمعارف والتوسع في المناشط والصنائع والعمران. مبحث حفظ الدين والآداب، هل يكون للحكومة، ولو القضائية، سلطة وسيطرة على العقائد والضمائر؟ أم تقتصر وظيفتها في حفظ الجامعات الكبرى كالدين، والجنسية، واللغة، والعادات، والآداب العمومية على استعمال الحكمة ما أغنت الزواجر، ولا تتداخل الحكومة في أمر الدين، ما لم تُنتَهَك حرمته؟ وهل السياسة الإسلامية سياسة دينية؟ أم كان ذلك في مبدأ ظهور الإسلام، كالإدارة العرفية عقب الفتح؟ مبحث التفريق بين السُّلطات السياسية والدينية والتعليم هل يُجمع بين سلطتين أو ثلاث في شخصٍ واحد؟ أم تُخصَّص كلُّ وظيفةٍ من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بإتقان، ولا إتقان إلا بالاختصاص، وفي الاختصاص، كما جاء في الحكمة القرآنية: "ما جعل اللهُ لرجلٍ من قلبين في جوف"، ولذلك لا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة. مبحث الترقّي في العلوم والمعارف هل يُترَك للحكومة صلاحية الضَّغط على العقول كي يقوى نفوذ الأمَّة عليها؟ أم تُحمل على توسيع المعارف بجعل التعليم الابتدائي عمومياً بالتشويق والإجبار (الإلزام)، وبجعل الكمالي سهلاً للمتناول، وجعل التعليم والتعلُّم حرّاً مطلقاً؟ مبحث التوسُّع في الزراعة والصنائع والتجارة هل يُترك ذلك للنشاط المفقود في الأمَّة؟ أم تلزم الحكومة بالاجتهاد في تسهيل مضاهاة الأمم السَّائرة، ولا سيما المزاحمة والمجاورة، كيلا تهلك الأمَّة بالحاجة لغيرها أو تضعف بالفقر؟ مبحث السَّعي في العمران هل يُترك ذلك لإهمال الحكومة المميت لعزَّة نفس السُّكان، أو لانهماكها فيه إسرافاً وتبذيراً؟ أم تحمل على اتِّباع الاعتدال المتناسب مع الثورة العمومية؟
السؤال الجوهري الذي يجب أن يظل محلّ ترقّب ومراقبة؛ فحص وبحث ودرس؛ كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد؟
يتوج ذلك كله من رؤيةٍ متكاملةٍ متكافلةٍ واضحةٍ فاعلة الاهتمام بهذه الأوضاع البنائية، وكذا التفكيكية، ضمن رؤية بصيرة تعرف للبناء شروطه، وللتفكيك مسالكه ومداخله، للتخلص من الاستبداد؛ يهتم بذلك كله، بالدراسة المتأنية والحركة البصيرة الواعية الداعية إلى بناء الحكم الرشيد وتركيبه، وتشريح الاستبداد وتفكيكه. مبحث السَّعي في رفع الاستبداد، هل يُنتظر ذلك من الحكومة ذاتها؟ أم نوال الحرية ورفع الاستبداد رفعاً لا يترك مجالاً لعودته، من وظيفة عقَلاء الأمة وسراتها؟
هذه مباحث، كلٌّ منها يحتاج إلى تدقيقٍ عميق، وتفصيلٍ طويل، وتطبيق على كلِّ الأحوال والمقتضيات الخصوصية. وقد ذكرتُ هذه المباحث تذكرةً للكُتَّاب ذوي الألباب، وتنشيطاً للنُّجباء على الخوض فيها بترتيب، اتِّباعاً لحكمة إتيان البيوت من أبوابها. ها هو الكواكبي يذكّرنا في نهاية كتابه بعملين جليلين، أشار إليهما في تصدير كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، تأسيس الحكم الرشيد، بنية وجوهرا ووظائف وشروطا وأدوارا؛ ومهمة أخرى لا تقل عن تلك أهميةً، تفكيك البنية الاستبدادية وآليات تشريحها والتعرّف على مساربها؛ والتعرّف على مداخل التخلص من الاستبداد، ومراقبة حركة قابلياته وشروط تمكين سياسات طغيانه واستراتيجيات هذا الطغيان، وتعظيم قدراته، ليظل السؤال الجوهري الذي يجب أن يظل محلّ ترّقب ومراقبة؛ فحص وبحث ودرس؛ كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد؛ علمان متساندان، علم السياسة الذي يقيم بناء الحكم الرشيد؛ وعلم الاستبداد الذي يقيم قواعد هذا العلم، فيتعرّف على مفاصله وقابلياته وتشريحه وطرائق التخلص منه.