"وداعاً لينين" ... جمهورية خيالية بمقومات بدائية
أُنتج، في العام 2003، الفيلم الألماني اللطيف "وداعاً لينين". يحكي قصة سيدة وقعت في غيبوبة قبل سقوط جدار برلين، ثم استيقظت بعد 18 شهراً في عالم مختلف.
تعرّضت كريستين تيرنر (لعبت دورها كارين ساس) للاضطهاد والملاحقة من السلطة الشيوعية في ألمانيا الشرقية بعد فرار زوجها إلى الغرب، وتركها مع طفليْن، صبي وصبية. بحسب تعبير ابنها أليكس (لعب دوره دانيال برول، الذي عرف أكثر بعد سنوات في أفلام كابتن أميركا)، قررت أن "تتزوّج الجمهورية"، ونذرت نفسها بإخلاص للقيم الاشتراكية. ربما تكفيراً عن ذنب زوجها، ورغبة في إيجاد معنى سامٍ لبقائها. ... يتعرّض الابن لعقدة ذنب شديدة، عندما تسقط والدته في الغيبوبة بسبب رؤيتها له في مظاهرة معارضة. وبشكلٍ ما، يمكن أن نستشعر عقدة أخرى، أوديبية في علاقة الابن بأمه، فحين تخرج الأم من غيبوبتها، ويخبر الطبيب أسرتها أن صحتها لا تتحمّل أي انفعال عنيف، يقرّر أليكس أن يزيّف واقعاً كاملاً ليخفي عن والدته حقيقة ما حدث في العام ونصف العام الذي غابت فيه عن الوعي.
في مشاهد مليئة بالكوميديا السوداء، نتابع معاناة الابن في البحث عن أنواع الطعام التي لم تعُد موجودة بعد سقوط جدار برلين. يبحث عن المخلّل الاشتراكي، فلا يجد إلا مخلّلات مستوردة من هولندا. المربّيات الألمانية الشرقية التي تألفها والدته لم تعد تُصنع. حتى أن بائعة السوبر ماركت تستغرب طلباته وتسأله في ازدراء "أين كنت تعيش؟". أصبح كل شيء غربياً الآن. حتى العلاقات الاجتماعية، والطموح، فاخته التي كانت تدرس الاقتصاد أصبحت بائعة في محل هامبورغر.
يبدأ أليس في تزييف الواقع بتعبئة المنتجات الأوروبية الرأسمالية في عبوات قديمة اشتراكية. فقط ليقنع والدته طريحة الفراش بأن العالم ما زال كما اعتادته. تبدو تلك استعارة ذكيةً جداً عن ميكانيزمات الخداع، خداع الآخرين وخداع النفس. حين نلجأ إلى تعبئة الجديد في عبوات الماضي، لنقنع أنفسنا بأن شيئاً لم يتغير، ليس المحتوى هو المحتوى نفسه، لكن العبوة الخارجية هي ما يهم. ومع اندفاع أليكس المحموم تتطوّر خدعته ليفبرك إرسالاً تلفزيوناً، ويحشد أصدقاء قدامى ليتظاهروا معه، ويستأجر أطفال المدارس ليلعبوا دور أطفال المعسكر الشرقي الملتزمين بقيم الاشتراكية.
في لحظة فارقة، تغادر الأم سرير المرض وحدها وتنزل إلى الشارع، لتفاجَأ بجار جديد قادم من ألمانيا الغربية، وهو ما يضطرّ ابنها لفبركة نشرة أخبار تعلن لجوء مئات الآلاف من الألمان الغربيين إلى ألمانيا الشرقية هرباً من توحش النظام الرأسمالي، وطمعاً في جنة الاشتراكية.
وفي مشهد موحٍ، تشاهد الأم عملية نقل تمثال لينين بطائرة عسكرية، ويمرّ التمثال أمامها وهو يمدّ يده إليها كأنه يطلب مساعدتها ليبقى. .. يستمرّ الفيلم في عرض الحيل المعقدة التي قام بها الابن أليكس حتى وفاة أمه. لكننا نعلم أن صديقة أليكس الروسية أخبرت الأم الحقيقة قبل أيام قليلة من وفاتها، ولم تحاول الأم إعلان ما عرفته. إنما نلاحظ كيف تغيرت نظراتها المرتبكة إلى نظرات امتنان لابنها، فبشكل ما تقبّلت الخدعة إكراماً لجهده.
في مشهدٍ جمع الابن وصديقته وهما يدخّنان الحشيش، تقول الصديقة عن الأم:
- من المؤسف ألا تشاهد شيئاً من هذا كله! .. فيجيبها أليكس:
- قد يكون ذلك أفضل. فكل ما آمنتٍ به تلاشى في الهواء خلال بضعة أشهر بهذه البساطة.
على الرغم من سوداويته، في الفيلم مسحة من لطف الكوميديا، لكنه شديد الوجع في فتح أسئلة مهمة عن أهمية مواجهة الواقع وتغيراته، مهما كانت قناعاتنا وما نؤمن به. وعن كيف يمكن أن يتغير واقع كامل عاش عقودا طويلة إلى واقع جديد في أقل من عامين، ببساطة، كأنه يتلاشى في الهواء.