وداعاً للسلام

21 مايو 2023
+ الخط -

لئن كان أرنست همنغواي قد كتب روايته الشهيرة "وداعاً للسلاح" في تقبيح الحرب العالمية الأولى، فسأختار من جهتي "وداعاً للسلام" لأعبّر عن شماتتي بضحايا موجة السلام "الثانية" مع إسرائيل من العرب، ومنهم جنرالات السودان المتصارعون حالياً، لا على السلطة فقط، بل على تقديم تنازلات أزيد لإسرائيل، والتفوّق على الآخر باختصار طريق التطبيع نحو تل أبيب.

قد تكون تلك إجابةً عن سؤال مؤرّق عما إذا كانت إسرائيل طرفاً خفيّاً في هذا الصراع، وكيف سمحت أصلاً باندلاعه بين طرفين يبادلانها الودّ، ولا يتحرّجان من إبداء رغبتهما في عقد اتفاقية سلام معها، فهل خشيت من تراجع أحدهما، مثلاً، أم شعرت بأنّ ثمّة تلكؤاً في مسار التطبيع يوجب الحسم العسكريّ بين أطراف السلطة؟

إن صحّ هذا، فإن من يضع نهاية حرب السودان ليس الجنرالات، بل إسرائيل، حيث لا صلح بين الإخوة قبل الصلح معها، لتُرسي بذلك معياراً جديداً للعلاقات البينية العربية حتى داخل البلد الواحد، بعد أن نجحت هي وأميركا بذلك دوليّاً، بأن جعلتا من "السلام" مع إسرائيل معياراً أساسيّاً لتوطيد العلاقات الغربية مع أي دولةٍ عربيةٍ راغبة بذلك، مقابل عدم التورّع عن تدمير أيّ نظام عربيّ ينادي بخلافه، كما حدث مع نظام صدّام حسين الذي هدّد بحرق "نصف إسرائيل". والخشية ألّا يكون ببعيد ذلك اليوم الذي تصبح فيه إسرائيل وسيطاً للسلام بين العربيّ وشقيقه.

من هنا، تبدو الشماتة مشروعة بضحايا موجة التطبيع الثانية، من الذين لم يتّعظوا بأقرانهم في الموجة الأولى، التي بدأت بمصر، وتبعها الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، فمن ينظر إلى أحوال هذه الدول الثلاث، التي لا تسرّ صديقاً ولا عدوّاً باستثناء إسرائيل، يدرك مبلغ الخديعة التي جلبها "السلام" لهذه الدول التي تردّت أوضاعها الاقتصادية إلى ما دون الحضيض، حتى راجت فيها طرفة مفادها بأنّ "زمن الحرب كان نعيماً قياساً بزمن السلام"، فلا وعد تحقّق، ولا تجارة ازدهرت، ولا تطوّر أو تحديث لمسه المواطن، بل اتسعت رقع الفقر والبطالة، وقلت الحرّيات، وتفاقم القمع والكبت... ولم يبقَ غير ذلك السؤال المرّ ناشباً في حلوق شعوبها: أين ثمار السلام التي وُعدنا بها؟

وفي الموجة الثانية سيتكبّد "المسالمون" ثمناً أبهظ، بدأت ملامحه في السودان، لأسباب عدة، أبسطها أنّ إسرائيل فقدت صبرها في "عصر السرعة"، ولم تعد تقبل بإطالة "أمد السلام" كما كانت تفعل، وهي فلسفة الحرب ذاتها التي تعتمدها، القائمة على "الحرب الخاطفة"، فهي تريد "سلاماً خاطفاً"، وشاملاً، ومن يتلكأ أو يتردّد فسيدفع الثمن، وعليه أن يعلم، جيداً، أن لا ثمار لهذا السلام، بل كل ما سيحصل عليه الطرف "المسالم" هو السماح له بالبقاء على عرش السلطة فقط. وعليه بعد ذلك أن يتدبّر أمر شعبه واقتصاده، وفي أحسن الأحوال، يمكن أن تساعده إسرائيل باستثمار مصنع "ملابس" في بلاده، كما فعلت مع الأردن، مقابل فتح أسواقه مشرعةً أمام بضائعها وسلعها، وربما قواعدها العسكرية إن شاءت، لأن معايير الموجة الثانية للسلام اختلفت عن سابقتها، إذ لم تعد تكتفي إسرائيل بالسفارات والأعلام والمصافحات، بل المطلوب هو الأحلاف، والقواعد، ومعاهدات الدفاع المشترك، وربما أبعد من ذلك أيضاً.

هل كانت الشماتة في محلها، إذاً، في إخوةٍ يتحاربون في ما بينهم ويمدّون أيديهم لمصافحة إسرائيل؟ وقبل ذلك، هل يكون عنوان الرواية النقيضة "وداعاً للسلام" ملائماً لوصف عرب لم يودعوا السلاح إلا على "الجبهة الغربية" مع إسرائيل التي ظلت "هادئة" تماماً، باستثناء حروب تلقّوها أكثر مما أعلنوها، وفرّوا منها أكثر مما خاضوها، وسلّموا أراضيها أكثر مما دافعوا عنها، كما حدث في الجولان؟

كلّ شيء جائز، غير أنّ ما يعنينا هنا أن نكرّر ثانية أنّ الحرب أجمل عندما تكون مع عدوّ مغتصب محتلّ يفرض شروط السلام كمن يفرضها على مهزوم، وحينها سيكون مسوّغاً لنا أن نكتب روايتنا نحن الذين لا نرضخ لشروط العار تلك، وعنوانها: "وداعاً للسلام".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.