وحشة هائلة لا حدود لها
يعدّ الكاتب الروسي المولود عام 1860، أنطون تشيخوف، من أهم الآباء المؤسسين لفنّ القصة. وقد قال يوسف إدريس إنّ التشيخوفية مرحلة في حياة كلّ كاتب قصة قصيرة، لا بد أن يمرّ بها في وقت ما. وقال تولستوي إن تشيخوف كاتب ليس له مثيل، وهو بوشكين روسيا في النثر. طبيبٌ عشق الأدب، وأبدع فيه، لكنّ الموت لم يمهله طويلاً، فمات متاثراً بمرض السلّ عام 1904 عن 44 عاماً، مخلفاً إرثاً ثميناً من الأعمال القصصية المذهلة، مثل "موت موظف" و"الحرباء" إضافة إلى أعماله المسرحية العظيمة؛ "بستان الكرز" و"النورس" و"الأخوات الثلاث" و"العم فانيا".
وعلى الرغم من عبوره الخاطف في هذه الحياة، يمكن القول إنّ تشيخوف ظلّ علامة فارقة عصية على التكرار في تاريخ الأدب العالمي. تميز في كلّ ما كتب بحسٍّ إنساني عالٍ وحرص على تناول الشخصيات المعذّبة والمهمّشة والمسحوقة، سارداً معاناتها في ظلّ الفقر والظلم والحرمان. وتبقى قصته "الحوذي" (أو "لمن أشكو أحزاني" في ترجمة أخرى) مدرسة قائمة بذاتها في كيفية المزج بين البساطة والعمق والتكثيف والبراعة في توصيف دواخل النفس البشرية، وما يعتريها من حزن ووحشة واغتراب. قصة قصيرة لا تتجاوز الثلاث صفحات، كتبت بلغة محايدة مباشرة واضحة، خالية من البكائيات المبتذلة. لا تحتمل التأويل على الرغم من وقعها الهائل في النفس. سرد فيها تفاصيل يوم حزين من حياة الحوذي العجوز الفقير، أيونا، الذي فقد ابنه الوحيد جرّاء إصابته بالحمّى. كان أقصى طموح ذلك الرجل الجريح أن يبث معاناته لركاب عربته العديدين، أن يفضفض لهم عن مقدار الحزن واللوعة التي يحسّ بها، أن يخوض في التفاصيل، فيروي كيف مات ابنه، وكيف تعذّب وماذا قال قبل وفاته، أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد. أراد أن يقول كلّ شيء، لأنّه لم يتمكّن من الحديث عن ذلك مع أحد، على الرغم من مرور أسبوع على الحدث الجلل. أحس أنّ عليه أن يتحدث بوضوح وعلى مهل عن ذلك كله، غير أنّه لم يلقَ من الركاب الذين ظلّ يقلّهم طوال اليوم، في عربته الراكضة، عبر شوارع بطرسبرغ سوى عدم الاكتراث وقلة الانتباه، بل الزجر والتوبيخ والحثّ على الإسراع بهم إلى بغيتهم.
يصف تشيخوف مشاعر تلك الخيبة قائلاً: "وتدور عينا أيونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الطريق: ألن يجد في هذه الآلاف واحداً يصغي إليه، لكنّ الجموع تسرع من دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته، وحشة هائلة لا حدود لها. لو أنّ صدر أيونا انفجر، لسالت منه الوحشة، فربما أغرقت الدنيا كلها. ومع ذلك لا أحد يراها. لقد استطاعت أن تختبئ في صدفة ضئيلة، فلن ترى حتى في وضح النهار".
يعود أيونا، في نهاية ذلك اليوم الكئيب، بفرسه المتعبة إلى بيته المظلم البارد، وقد خارت قواها. يقودها إلى الإسطبل مثقلاً بأوجاعه الكثيرة، عاجزاً عن تدبير قوت يومه، يُطعمها ما تيسر من الشعير، ويخاطبها في قفلة القصة المدهشة: "هكذا، يا أختي الفرس، لم يعد ابني كوزما إيوننيتش موجوداً بيننا. رحل عنا فجأة. خسارة، فلنفرض مثلاً أنّ عندك مهراً صغيراً وأنت أم له، ولنفترض أنّه رحل فجأة. أليس ذلك مؤسفاً؟ وتمضغ الفرس شعيرها وتُنصت، وتزفر على يديّ صاحبها، فيسترسل أيونا، ويحكي لها كلّ شيء".
وهكذا تنتهي القصة البديعة في إدانة مدوية لتوحش البشر وانعدام إحساسهم وافتقارهم أدنى مشاعر حنان وتعاطف، وهنا السحر كله، فهذه القصة تصلح لكلّ زمان ومكان، وتعبر ببلاغة عن ضعفنا الإنساني بأقل الكلمات الممكنة... كلّ ما احتاجه ذلك الرجل المهزوم لا يتعدّى أذناً صاغية وكلمة مواسية تطيّب خاطره، وتخفف من أحزانه، وتبث فيه روح الأمل، كي يصدّق أنّ ثمّة من يحزن لأجله، ومن يحس بألمه ويشاطره حزنه، وأنّه ليس وحيداً بالمطلق في هذه الدنيا الموحشة!