وترجّل الفارس

11 يونيو 2023

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

ما الذي كان يدور في خلد الجنديّ المصريّ المجهول، عندما قرّر أن يغيّر قواعد الاشتباك مع إسرائيل من "صديق" إلى خصم، فيترجّل عن برج الحراسة، ويجتاز الحدود، ويطلق النار؟

على الأرجح، أنه كان يستعيد عبارة أسماء بنت أبي بكر الخالدة: "أما آن لهذا الفارس أن يترجّل"، فيشعُر بأن ثمّة من تركه معلّقاً على برج شاهق، شاهداً لا يحقّ له الإدلاء بشهادته ما دام حيًّا عن كل ما يدمي العين والقلب من مشاهد المحتلّ الذي صار "جارًا" بالقوّة، وحليفاً بعصا "الأمر الواقع".

كان فارساً معلّقاً غير مترجّل، يسمع هدير القاذفات والدبّابات وهي تمطر غزّة بحمم الموت، فيتذكّر خيمة جمال عبد الناصر ورفاقه من الجنود المصريين الذين حاربوا في غزّة، ويشعر أنه امتداد لتلك السلالة، تحديداً، وليس للطفرة التي طرأت عليها، عندما انعطف جنرالاتٌ آخرون عن الدرب، وقرّروا الاستسلام بذريعة "السلام"، ويرى صلافة "جيرانه" من أعداء الأمس، وهم يخطرون ويتبخترون أمامه، بعدما استولوا على الأرض والعرض.

ولربما فاقم من غيظه ما رآه من مشاهد الاستعداد لاحتفال "جيرانه" بذكرى النصر في حزيران، باعتباره شهراً فارقاً في مصير إسرائيل التي استطاعت فيه أن تبتلع جزءًا من أراضي ثلاث دول عربية في ظرف ساعات فقط، في حين ترك هذا الشهر في ذاكرة العرب جرحاً لا يندمل رغم تعاقب الأجيال.

عندها، أجاب عن سؤال أمّه، وقرّر أن يترجّل من برج الحراسة الذي لم يكن يرى فيه غير برج لحراسة العدوّ، ليصنع لحزيران ذاكرةً أخرى، تسرّ الصديق وتغيظ العدا. ترجّل لا ليُدفن بل ليبرهن أنه ما زال حيّاً، وفي وسعه أن يتمرّد على الأوامر، التي أرادت له أن يبقى معلّقاً هناك، مقاتلاً لا يقاتل .. شقيقاً للعدوّ، وعدوّاً للشقيق.

توغّل عبر الحدود؛ لأنه لا يعرف حدوداً لكرامته التي أرادوا ضبطها هي أيضاً بعدما أمروه سابقًا بـ"ضبط النفس"، ربما لأنهم تيقّنوا أنهم انتزعوا كل صنوف الكرامات من جسد الإنسان العربيّ لحظة ولادته، على اعتبار أنها "زائدة لحميّة" يمكن ختانها، وانتزعوا معها "زائدة العروبة"، و"الغيرة المضريّة"، فأنتجوا فرداً هلاميّاً سائلاً، لا ينتمي لغير الزعيم وأوامره ونواهيه، فهو الوطن والمعبود والمعبد، وهو أول التاريخ ومسك ختامه.

غير أن هذا الفارس الذي تعمّدوا إخفاء هويته أياماً، غيّر قواعد اللعبة، عندما ترجّل، فقد صدم حجّاج العصر يوم نزل عن المشنقة، متأبّطًا سلاحه، عارفاً طريقه جيّداً، عبر فوّهة البندقية التي أرشدته إليها أمّ كلثوم ذات نكسة، ومن رائحة الشهداء العابقة في كلّ الأرجاء، وكان ثمّة علامة تُرشده إلى الهدف، تشير إليها أصابع سليمان خاطر، الرفيق الذي سبقه على الدرب نفسه قبل عقود، والذي حاولوا اتهامه بالجنون؛ لأنه تمرّد على عقولهم "الحكيمة"، وأردى هو الآخر شرذمة من المحتلّين.

والحال أنه لم يكترث إن كشفت هويته أم لا، فقد كان يدرك أنه جزءٌ من هوية قادمة لجيل جديد لم يعد ينتظر "الأوامر" عندما يتعلّق الأمر بالشهامة والكرامة والنخوة، ولا يُضيره أن يكون "ّذئباً منفردًا" ما دامت "الجماعة" لا يد لها ولا باع إلا لمصافحة العدوّ وعناقه، والاشتراك معه في حوك الدسائس وبناء التحالفات.

على الأرجح، أنه كان يريد الوصول إلى حيث كانت خيمة جدّه عبد الناصر، ليدير المعركة من هناك، وليحرّض الرفاق على اللحاق به، مدركًا أنه قد لا يصل، ولكن يكفيه أن تستيقظ الكرامة النائمة في نفوس العرب.

لم يسدّد الرصاص على جنود الاحتلال فقط، بل ثمّة أزيز يدوّي الآن في آذان كلّ الجنرالات الذين ظنّوا أن "أمن إسرائيل وأمنهم قد استتبّ"، وفي صميم من اعتقدوا أن "قواعد الاشتباك" ما زالت على حالها.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.