واشنطن والتطبيع السعودي الإسرائيلي المحتمل

09 أكتوبر 2023

وفد إسرائيلي يشارك في اجتماع لجنة التراث العالمي لليونسكو في الرياض (11/9/2023/فرانس برس)

+ الخط -

على الرغم من توقعات اقتراب "التطبيع الدبلوماسي" بين السعودية وإسرائيل، بعد مقابلة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع قناة فوكس نيوز الأميركية (20/9/2023)، فإن ثمّة عوائق قد تعرقل الوصول إلى "اتفاق سلام شامل" برعاية أميركية، من دون أن يلغي ذلك احتمال الوصول إلى "تفاهمات جزئية"، ربما تكرّس مفهوم "التطبيع الحذِر" بين الرياض وتل أبيب، على نحو يسمح أيضًا بتجاوز "التوتّرات المحكومة" في العلاقات الأميركية السعودية في ظلّ إدارة الرئيس جو بايدن، سيما ما يتعلق منها بالتقارب السعودي مع الصين وروسيا.
وفي إطار تحليل الدور الأميركي في التقارب السعودي الإسرائيلي، وتداعياته المحتملة على القضية الفلسطينية خصوصًا، وعلى إقليم الشرق الأوسط عمومًا، ثمّة خمس ملاحظات: أولاها، ترجيح إعادة السعودية "تعريف التطبيع"، عبر تدشين علاقة "متوازنة"، بين السلطة الفلسطينية في رام الله والحكومة الإسرائيلية، على نحو ينشئ "رسائل رمزية"، بانفتاح الرياض وحرصها على عملية التسوية، وتعزيز منطق التهدئة/ التسويات/ المفاوضات، في إقليم الشرق الأوسط إجمالًا، وجدارة المملكة بمكانة "خاصة" لدى واشنطن، بما في ذلك تطوير "تحالف سياسي/ أمني/ نووي"، يلبي الحاجات الدفاعية السعودية. 
وعلى الرغم من تحسّبها من تعقيدات السياسة الداخلية الإسرائيلية، فإن الرياض تتعجّل تطوير مسارات أخرى للتطبيع غير الدبلوماسي، (من قبيل توسيع التعاون الاقتصادي والثقافي والسياحي والتجاري... إلخ، وإمكانية استقبال مسؤولين أو تكنوقراط إسرائيليين في المملكة)؛ إذ شارك في سبتمبر/ أيلول الماضي، وفد إسرائيلي في قمّة منظمّة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، المنعقدة في الرياض. ثم زار وزير السياحة الإسرائيلي، حاييم كاتس، السعودية، للمشاركة في مؤتمر السياحة التابع للأمم المتحدة. كما شارك وفد إسرائيلي (1/10/2023) برئاسة وزير الاتصالات، شلومو كرعي، في مؤتمر الاتحاد البريدي العالمي، في الرياض.
على صعيد آخر، زار السفير السعودي غير المقيم لدى السلطة الفلسطينية، نايف بن بندر السديري، رام الله (26 و27/9/2023)، في إطار تحرّك السعودية نحو السلطة الفلسطينية لإثبات جهوزية الرياض لاتخاذ خطوات لتشجيع إسرائيل والولايات المتحدة على السير نحو تخفيف "معاناة الفلسطينيين" و"تحسين معيشتهم".

على الرغم من تحسّبها من تعقيدات السياسة الداخلية الإسرائيلية، تتعجّل الرياض تطوير مسارات أخرى للتطبيع غير الدبلوماسي

واستطرادًا، ثمّة "توزيع أدوار" في السياسة السعودية تجاه الموضوع الفلسطيني والتطبيع مع إسرائيل، (كما يظهر من تباين مضمون تصريحات ولي العهد السعودي لـ"فوكس نيوز"، وخطاب وزير الخارجية، فيصل بن فرحان، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتصريحات السفير السعودي، نايف بن بندر السديري)؛ إذ أشار الأخيران إلى مبادرة السلام العربية وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية، في حين جاءت تصريحات بن سلمان أكثر عمومية، بالإشارة إلى "تحسين حياة الفلسطينيين"، وأن التطبيع بين بلاده وإسرائيل يقترب "أكثر كل يوم".
وعلى الرغم من هذه التكتيكات الدبلوماسية/ التفاوضية السعودية، فإنها لا تبدو "كافية" لتحقيق أهداف الرياض من التقارب مع إسرائيل، ناهيك عن دفع واشنطن إلى تحقيق المطالب السعودية؛ إذ يلوح في الأفق احتمال فشل هذه التكتيكات، لاعتباراتٍ تشبه أسباب إخفاق المبادرة العربية للسلام المطروحة منذ أكثر من 21 عامًا، (كونها ولدت ميتة أصلًا، وجاءت خاليةً من أي أدوات ضغط أو "أنياب" تنقلها إلى مستوى الاستراتيجية الفعّالة، ناهيك عن عدم قابلية المبادرة للتنفيذ إسرائيليًّا في غياب أي قبول مجتمعي/ سياسي إسرائيلي لإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه، مع الصعود المطرد لتيارات اليمين الإسرائيلي المتطرّف، بالإضافة إلى تجاوز دول اتفاقات أبراهام عام 2020، منطق الربط بين التطبيع والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، كما تنصّ المبادرة إياها).
تتعلق الملاحظة الثانية بالعائق الإسرائيلي الداخلي أمام إبرام "اتفاق سلام" مع السعودية؛ إذ يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تحدّيات حقيقية قد تمنع استمراره طويلًا في منصبه، بسبب تداعيات مشروع "التعديلات القضائية"، على تأجيج الانقسام السياسي والمجتمعي والهوياتي في إسرائيل، وتأثيراته على صورة إسرائيل وقدراتها الردعية ومدى جاهزية جيش الاحتلال لمواجهة تحدّيات إيران وحزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، سيما بعد عمليات "طوفان الأقصى"، وكذا تصاعد انتقادات شخصيات أمنية وعسكرية وسياسية لنتنياهو، بسبب احتمال تعريضه المصالح الأمنية والإقليمية الإسرائيلية لمخاطر محتملة في إطار مسار التطبيع مع الرياض.
تتعلّق الملاحظة الثالثة بجوهر دور واشنطن في تكريس التقارب السعودي الإسرائيلي، وصولًا إلى احتمال تطبيع العلاقات، في سياق أوسع من الردّ الأميركي على مشروع الحزام والطريق الذي طرحته الصين عام 2013، والذي تراه واشنطن وحلفاؤها مشروعًا جيوسياسيًّا، يتدثّر بالاقتصاد والتنمية، لمدّ نفوذ الصين في قارّات آسيا وأفريقيا وأوروبا.

تضغط إدارة بايدن لتوسيع التطبيع السعودي والعربي والإقليمي مع إسرائيل، لإنقاذ نتنياهو من مأزقه الداخلي المتصاعد

وفي هذا السياق، شهدت قمّة العشرين في نيودلهي (9 و10/9/2023) توقيع مذكّرة تفاهم بين الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والهند وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي، لإنشاء ممرّ اقتصادي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، ما يؤكّد أن واشنطن تريد تكريس الشرق الأوسط منطقةَ نفوذ أميركية، وإعادة دمج إسرائيل في المنطقة العربية، وتعزيز موقع الهند في مواجهة الصين، التي تتحرّك بنشاط دبلوماسي واضح، لتوظيف الانشغال الأميركي والأوروبي والروسي الواسع، في الأزمة الأوكرانية 2022/2023.
وتبدو المفارقة هنا في أن إدارة بايدن تضغط لتوسيع التطبيع السعودي والعربي والإقليمي مع إسرائيل، لإنقاذ نتنياهو من مأزقه الداخلي المتصاعد، وتعوّل واشنطن، في الوقت نفسه، على دور نتنياهو في تمرير المطالب السعودية في الكونغرس، عبر استمالة النواب والمشرّعين الأميركيين المؤيدين لإسرائيل، في ظل الموقف المعروف للتيار التقدّمي في الحزب الديمقراطي من الملفّ الحقوقي السعودي، وعدم رغبة النواب الجمهوريين في مساعدة بايدن بتحقيق إنجاز دبلوماسي كبير قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2024).
تتعلق الملاحظة الرابعة بسلوك الرابحين والخاسرين من التطبيع السعودي الإسرائيلي، على ضوء الممرّ الاقتصادي الذي سيربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا؛ فالأرجح أن تحتاط الصين وإيران وتركيا وباكستان ومصر والعراق وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية من هذا التطبيع، وربما توثّق تعاونها وتعمل لتقليص انعكاساته السلبية عليها.
ومن تحليل السلوك السعودي، يبدو أن انعكاسات التنافس مع إيران أصبحت تفوق أهمية قضية فلسطين بالنسبة لأغلب السياسات العربية، منذ التوجّه المصري نحو التسوية مع إسرائيل، إذ جرى "تعريب كامب ديفيد"، بدلا من تطوير بدائل عربية عن مسارات التسوية مع إسرائيل. وبالتوازي مع فقدان الإطار العربي "بوصلته الفلسطينية" (كانت تضمن الحدّ الأدنى من "تماسكه وهويته المشتركة")، اختلّت الأولويات الاستراتيجية العربية، وصعدت قضايا خلافية إلى صدارة الأجندة العربية، (مثل أمن الخليج العربي، وتصاعد المشروعين الإقليميين لإيران وتركيا، في مقابل "إهمال/ تجاهل" تصاعد الاختراق الإسرائيلي الاستراتيجي أغلب الدول العربية، والدول التي كانت تؤيد قضية فلسطين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية).

بحكم "التماهي المصلحي الاستراتيجي" بين واشنطن وتل أبيب، يستحيل على أية دولة عربية، مهما كانت صديقة للغرب، أن تتفوّق على تأثير إسرائيل على صانع القرار الأميركي.

تتعلق الملاحظة الأخيرة بوجود ستة متغيّرات/ مخاطر، تستدعي "التريث السعودي" قبل الوقوع في أحابيل التطبيع:
1) - مكانة إسرائيل "الفريدة" في الاستراتيجية الأميركية تجاه إقليم الشرق الأوسط، ما يدفع إدارة بايدن إلى محاولة إنقاذ إسرائيل من انقساماتها الداخلية؛ فلا مقارنة بين التأثيريْن، الإسرائيلي والسعودي، على السياسة الأميركية؛ فبحكم "التماهي المصلحي الاستراتيجي" بين واشنطن وتل أبيب، يستحيل على أية دولة عربية، مهما كانت صديقة للغرب، أن تتفوّق على تأثير إسرائيل على صانع القرار الأميركي.
 2) -  خطورة ربط تحسين علاقات الرياض بواشنطن، بالتطبيع مع إسرائيل وتجاهل البعد السياسي التحرّري الفلسطيني والعربي؛ فالقضية ليست مجرّد امتلاك برنامج نووي، سلميا كان أم عسكريا، بل في الإرادة السياسية وتحدّي الضغوط الخارجية، خصوصا الأميركية، مثلما تفعل إيران وتركيا حاليا.
3) - فشل الخبرات العربية السابقة في مسار التطبيع والتسوية مع إسرائيل، منذ اتفاقية كامب ديفيد 1978، في تحصيل الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية والعربية، واستئثار إسرائيل بأغلب المزايا النسبية للتسوية، في توطيد علاقاتها الإقليمية والدولية، وزيادة تسليحها وتفوقها على الدول العربية مجتمعة، بضمانات أميركية لا تتزعزع.

صعوبة تجاوز البعد الفلسطيني في حلّ قضية فلسطين، سيما في ظل محدودية نجاح مقاربة "الحل الإقليمي" والتطبيع العربي الإسرائيلي

4) - براغماتية السلوك الأميركي، وتنصّل واشنطن من وعودها المتكرّرة بمجرّد تغيّر مصالحها، (مثل حديث جورج بوش الابن عن دولة فلسطينية عام 2001، لحشد الدعم العربي لمكافحة الإرهاب، ثم لضمان تعاون العرب في تسهيل احتلال العراق عام 2003). 
5) - ضغوط الوقت على إدارة الرئيس بايدن، واحتمال فشلها في تحقيق إنجاز "اتفاق سلام سعودي إسرائيلي"، ما يعني أهمية استحضار نموذج إدارة دونالد ترامب التي توصلت إلى اتفاقات إبراهام، وخسرت رغم ذلك الانتخابات، وكذلك خسر الرئيس جيمي كارتر انتخابات 1980، بسبب ثقل المشكلات الاقتصادية وقضية رهائن السفارة الأميركية في إيران بعد الثورة، على الرغم من إنجازه اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية (26/3/1979). 
6) - خطورة انزلاق الرياض نحو منطق تخفيف "معاناة الفلسطينيين" و"تحسين معيشتهم"، على نحوٍ يتلاقى مع أفكار "السلام الاقتصادي"، التي يتبنّاها نتنياهو، مع تجاهل السعودية تزايد الانتهاكات/ الجرائم الإسرائيلية وتصاعد المقاومة الفلسطينية ضدها، ودخول جيل الشباب إلى ميدان الصراع، ونجاح الشباب في تجديد أشكال المقاومة وأساليبها، وتصاعد احتمال اندلاع "انتفاضة فلسطينية شاملة"، سوف تعيد خلط الأوراق، وتعمل على إرباك حكومة نتنياهو والمطبّعين العرب، على حد سواء، بما يؤكّد صعوبة تجاوز البعد الفلسطيني في حلّ قضية فلسطين، سيما في ظل محدودية نجاح مقاربة "الحل الإقليمي" والتطبيع العربي الإسرائيلي، سواء في صيغة أوسلو، أم المبادرة العربية للسلام، أم صفقة القرن واتفاقات أبراهام.
يبقى القول إن جوهر المأزق السعودي/ العربي في استعجال التطبيع مع إسرائيل يكمن في هيمنة قيم المساومة والتسوية التي فشلت في تحقيق إنجاز يُذكر، سوى تكريس وطأة تحكّم العامل الخارجي، خصوصًا الأميركي/ الإسرائيلي، في مسارات الدول العربية ومصائر شعوبها.

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل