هيروشيما... أوكرانيا... "أوبنهايمر"
ربّما غالى سيّد قطب، لمّا كتب، من وحي رحلتِه إلى الولايات المتحدة (1948)، إن "الفن الوحيد الذي يتقنه الأمريكان، وإنْ يكن سواهم لا يزال يفوقهم في الناحية الفنية فيه، هو فن السينما". لكنه لا يغالي من يقول إن الأميركان لا يُنازَعون في براعتهم في تسويق منتجاتهم السينمائية وترويجها. الشواهد على هذا غير قليلة، منها أخيرا الشعور الذي يستبدّ في ملايين الناس، في هذه الأسابيع، إن مشاهدتهم فيلم "أوبنهايمر"، الذي أنتجته ثلاث شركات كبرى في هيوليوود، ضرورة واجبة، وهذا هو الفيلم يغزو (يجوز القول بالغزو هنا؟) صالات السينما في مشارق الأرض ومغاربها، ويلملم فيها إيراداتٍ بملايين الدولارات. ولكن اليابانيين يُؤثرون عدم مشاهدته، فلم يدخُل بلادَهم حتى الساعة، والذائع إن ثمّة قرارا رسميا غير معلَن ربما بعدم عرضه، فيما تنشط الحملات الإلكترونية من أجل هذا. ودافعُهم هناك أن الفيلم لم يلتفت إلى مأساة اليابانيين الذي قضى منهم نحو مائتي ألف في قصف الولايات المتحدة، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، في 1945، مدينتيْهم، هيروشيما وناغازاكي (ردّا على قصف 400 طائرة للجيش الياباني في 1941 قاعدة عسكرية أميركية في هاواي، دمّرت فيها عشرات السفن والطائرات الحربية الأميركية، فضلا عن قتل 2400 جندي).
عبرت أمس الأحد، 6 أغسطس/ آب، ذكرى ضرب هيروشيما بالقنبلة الذرية (قُصفت بها ناغازاكي بعد ثلاثة أيام)، ما مثّل مناسبةً لتنشط حملات اليابانيين المعارضين عرض فيلم كريستوفر نولان في بلدهم، ومناسبةً أيضا ليس فقط للتذكير بمخاطر السلاح النووي، وإنما أيضا بمخاطر تهديداتٍ تتردّد باستخدامه. وهذا رئيس بلدية هيروشيما، كازومي ماتسوي، يقول، في مراسم إحياء الذكرى المهولة، بحضور مسنّين نجوا من ذلك الانتقام الأميركي، إن "على الزعماء في العالم مواجهة حقيقة أن التهديدات النووية التي يُطلقها صانعو سياساتٍ بعينهم تكشف عن حماقة نظرية الردع النووي". ولا يحتاج واحدُنا لأن يكون بنباهة زرقاء اليمامة ليعرف أن الرجل يؤشّر إلى استسهال الرئيس الروسي، بوتين، وبعض فريقه، الكلام عن إمكانية استخدام جيش بلاده سلاحا نوويا في أوكرانيا. وقد قال هذا صراحة رئيس وزراء اليابان، فوميو كيشيدا، في أثناء المراسم وبعد وقوف دقيقة الصمت، إن الطريق إلى عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية يزداد صعوبة، لعدة أسباب، منها "التهديدات الروسية". ويشيع أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، خوفا وقلقا كبيريْن، عندما يقول، في كلمته التي ألقيت هناك بالنيابة عنه، "إن طبول الحرب النووية تُقرع من جديد".
هل يفعلها بوتين، ويضرب هناك، في أوكرانيا، بالنووي؟ ألمحَ عَرضا إلى شيءٍ من هذا مرّة، ونفى غير مرّة، لكنه أودَع عند جاره رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، أسلحة نووية تكتيكية، قال عنها الأخير إن بعضَها أقوى ثلاث مرّات من القنابل الذرّية التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي. ولأن ليس من مهمّة المعلّق الصحافي أن يكون كما قارئة الفنجان، يجدُر الحذر من ترجيح الذهاب إلى أن بوتين قد يفعلها هناك، إذا ما استشعر أن خطوةً انتحاريةً مجنونةًً مثل هذه تشفي غليلا متوطّنا فيه من الاستخفاف الأميركي والغربي بروسيا التي تستحقّ، في أفهامه ومداركه، أن تكون عظمى وقوّةً كبرى مهابة في العالم. وعندما يبادر إلى سابقةٍ لم يفعل مثلها الاتحاد السوفييتي، إرسال سلاحٍ نوويٍّ إلى بلدٍ جارٍ صديق (تابع؟)، في إنذار إلى بلدٍ مقصودٍ بعينه، وإلى قوىً كبرى تتربّص ببلده، فإن أمرا كهذا يعزّز وجاهة المخاوف التي جاء عليها المتكلّمون في المدينة اليابانية المغدورة، وهي تذكّر العالم بالذي أصابها.
يأتي فيلم "أوبنهايمر" على ضربة هيروشيما، قرارا أخذه صاحب القرار السياسي في الولايات المتحدة، الرئيس ترومان. ويأتي أيضا على إحساسٍ بتنازعٍ بين العلم والأخلاق، بتصادم الوطنيّة الأميركية مع المسؤوليّة العلميّة، لدى عالم الفيزياء الكمّية اللامع، روبرت أوبنهايمر، الذي أدار مشروع إنتاج القنبلة الذرّية هناك. والفيلم، مع عدم إعجابٍ كثيرٍ به لدى صاحب هذه السطور، لا يُجانب الحقائق، ومنها أن لا صانع القرار السياسي ولا الفيزيائي المخذول عالم الذرّة ندما حقيقةً على الذي صار في هيروشيما (وناغازاكي)، ولا اعتذرا عنه. .... تُرى، هل يخوض الروس في الكرملين وحواشيه نقاشا، عن الأخلاق والسياسة، عن العلم ومسؤوليّاته، وهم يقلّبون الأمر على وجوهه، بعد الذي بعثوه إلى بيلاروسيا؟ هل سيُعرض الفيلم الشهير في صالات السينما في اليابان؟ هل كان العالِم أوبنهايمر مقنعا في حرجِه المنقوص؟ ...؟