هيرتا مولر بعد سلمان رشدي

08 يونيو 2024
+ الخط -

عندما صودف اسم الألمانية، رومانية المولد والصبا، الروائية حائزة "نوبل للآداب" (2009)، هيرتا مولر، موقّعة، في العام 2013، على بيانٍ يطالب برفع "الاحتلال الإسرائيلي القاسي"، عن الشعب الفلسطيني، و"ضرورة فضح الأعمال الإسرائيلية الإجرامية وإدانتها"، أصابنا الظنُّ أن الكاتبة وجدت في الفلسطينيين صفة المحرومين الذين صوّرت في أدبها حياتهم، بحسب تنويه الأكاديمية السويدية بأعمالٍ لها، في بيان منحها الجائزة العتيدة. إلا أن ذلك الظنّ الحسن ينكشف أخيراً أنه ربما كان في غير موضعِه، بعد الثلاثة آلاف كلمةٍ لمقالها الذي نشرته صحيفة فرانكفورتر ألجماينة، في صفحة كاملة، عن إسرائيل وحربها في غزّة وواقعة 7 أكتوبر، وليس من كلمةٍ واحدةٍ تلتفت إلى أيٍّ من "المحرومين" الفلسطينيين في القطاع، والذين نكبتهم إسرائيل بالقتل والتجويع وتدمير مستشفياتهم ومدارسهم في جريمةٍ مشهودةٍ مستمرّة. لا ترى صاحبة "البطاطا الساخنة في السرير الدافئ" الإسرائيليين إلا يهوداً، في المقالة التي في الأصل كلمة ألقتها في منتدى في استكهولم، قبل أسبوعين، شرّقت وغرّبت فيها كثيراً، من قبيل رؤيتها الطلاب المتظاهرين في جامعاتٍ أميركيةٍ وأوروبية عديدة ضد جرائم إسرائيل في غزّة داعمين مجتمعاً دكتاتورياً لا يؤمِن بحقوق المثليين. ولا يتّسع هذا المطرح للتعليق على كل ما ضجّت به خطبة/ مقالة هيرتا مولر (1953) من مغالطاتٍ وسخافاتٍ شديدة السطحية، لكنك تُصاب بفائضٍ من الدهشة والاستغراب عندما تلقى فيها حركة حماس ذات قوة خرافية، فهي التي "تقود عملية غسل دماغٍ ممنهجة" في "توك توك" يكون الطلاب المتظاهرون ضحاياها. وبرأي الأديبة، العالمية رغم أنوفنا (لم أتحمّس لما قرأتُه لها من أعمالٍ مترجمةٍ إلى العربية)، تتّبع "حماس" استراتيجيةً تسيطر على الأفكار والمشاعر في العالم، فتُحدِث التحوّل الذي يُفقد حاليا إسرائيل تأييد الرأي العام العالمي. وبحسب الكاتبة التي انتسب والدُها إلى تنظيمٍ عسكريٍّ نازي، واعتقل السوفييت والدتَها، يُشبه هذا الحال ما حدث للمجتمع الألماني في أثناء الحكم النازي!

لقائلٍ أن يقول إنه ليس من لزوم ما يلزم أن نحفَل بتخاريف هيرتا مولر في كلمتها التي اعتبرتها صحيفة بيلد الألمانية "نداء إيقاظ" ردّاً على "الجنون الذي استبدّ بأجزاء كبيرة من المجتمعات الغربية"، لكن ما يسوّغ هذا الاكتراث هنا ما تُشبه قناعةً صارت تقيم فينا، مفادُها بأننا في وقتٍ صرنا نرى حكوماتٍ غربية تُشهر غضبها من تمادي إسرائيل في جرائمها في غزّة، لا نزال نلقى نخباً فكريةً وأدبيةً في الغرب تمالئ إسرائيل بعماءٍ مفضوح، وتأخذًها المواقف المسبقة مما تسميه "الإرهاب الإسلامي" (جاءت عليه مولر في كلمتها) إلى اعتبار حركة حماس تلعب بعقول الطلاب وشرائح عريضة في أميركا وأوروبا (!)، وإلى النظر إلى خطرٍ على الإسرائيليين بوصفهم يهوداً مثّلته واقعة 7 أكتوبر. وليس منسيّاً ما أشهره الفيلسوف التسعيني هابرماس من دفاعٍ عن إسرائيل، وتبرئتها من ارتكاب جرائم إبادة، واختصاره الحرب على غزّة بمقولة الدفاع عن اليهود.

من مساوئ المصادفات أن الذي أعلنته هيرتا مولر، بفائضٍٍ من الحماسة، قال، أخيراً، شيئاً منه (أو مثله) سلمان رشدي، الذي، في مصادفةٍ أخرى، كان نصيراً للقضية الفلسطينية، ففي لقاءٍ عامٍّ له مع إدوارد سعيد على مسرحٍ في لندن، في 1986، قال كثيراً عن تضامنه المطلق مع فلسطين وشعبها ضد الاقتلاع والتهجير ومصادرة الأرض. غير أنه، في موقع إلكتروني ألماني (مصادفة أخرى)، يحدّث محاورة له، قبل أسابيع، إنه لم يعُد كما كان، مسانداً إقامة دولة فلسطينية، لأنها إذا صارت ستكون بقيادة "حماس"، وشبيهةً بدولة حركة طالبان. وبقدر ما يندهش واحدُنا من العوار البيّن في هذه الفرضية البائسة، من العجيب أن يُعيب رشدي على الطلاب المتظاهرين في جامعات أميركية وأوروبية عديدة عدم انتقادهم "حماس"، وعدم حرصهم على ألا ينجرفوا إلى "العداء للسامية". من دون أن يُبدي صاحب "العار" (إحدى رواياته) التفاتةً إلى مقادير القتل الفادحة الذي يقترفه جيش الاحتلال في الشعب الفلسطيني المحاصر في غزّة.

قد يلتقي ما أعلناه، هيرتا مولر ورشدي، من مواقف شديدة الانحياز لإسرائيل، مع ما أقام عليه طويلا كتّابٌ أجانبُ شهيرون، سارتر وميشيل فوكو، مثلا، اللذان خافا على إسرائيل من الهزيمة في 1967، غير أن ما نُشاهده ونسمعه من مثقفين وفنّانين وفنانات، وبعضُهم نجوم ويهود، في مناسباتٍ عالمية عديدة (مهرجان برلين السينمائي وغيره أخيراً) يُقنعنا بأن رشدي وهيرتا مولر من أوجه شذوذ باقية ظاهرة، وإنْ تُختتم المقالة بوجهة النظر هذه بكثير من الاحتراس والحذر.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.