هواجس سوريّة بين عصام العطّار ونائبة الأسد
ربما يستدعي رحيل الداعية الإسلامي والسياسي الإخواني، عصام العطّار، بعض هواجس مشروعة لدى شرائح معينة من السوريين، وربما كانت هذه الهواجس أو التساؤلات موجودة طيلة وجوده على قيد الحياة. وجوده الذي كان مُتعيّناً ومحسوماً بصورة نهائية، وهو الموقف المعارض للنظام الأسديّ، وكانت سيرته، حتّى قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، تشي بموقفٍ رافض في بعض الأحيان للمشاركة في وزارات رؤساء سوريين سابقين. أي إنّ الرجل لم يضمر شهوة لسلطةٍ ولا لمنصبٍ.
وما تلك الهواجس المقصودة إلا من خلال المقارنة بين عصام العطّار وأخته نجاح العطّار، وزيرة الثقافة لفترات طويلة، ثمّ مستشارة ثقافية للرئاسة السورية، ثمّ نائبة للرئيس. فكيف استقامت مع نظام الأسد تلك الصورة التي تحمل تناقضاً ملحوظاً بين قبوله لامرأة يُعتبر أخوها عماداً من أعمدة الإخوان المسلمين في سورية، بل زعيمٌ لها في مرحلة ما؟ إذ يعرف السوريون أنّ النظام الأمني الأسدي كان يضطهد أقارب أيّ شخص متهم بالإخوان المسلمين، حتى لو كان عنصراً عادياً لا فاعلية له، ويتمّ حتى فصلهم من وظائفهم؟ فكيف يتم تفسير وجود نجاح العطّار، أخت زعيم "الإخوان" في أعلى مراتب الهرم الثقافي السياسي للدولة؟
ثمّة عائلات سورية معارضة قد يكون أحد أعضائها موالياً للنظام ومدافعاً شرساً عنه، ولكن ليس إلى درجة أن تكون نجاح العطّار نموذجاً يشكّل ظاهرة، بل بالعكس هي حالة استثناء
لا نعرف كثيراً عن طبيعة العلاقة بين نجاح وعصام، اللهم إلا ما تردّده بعض وسائل التواصل من أنّها وجّهت إليه نداء ذات يوم للرجوع إلى سورية، ولا ندري صوابية تلك المعلومة. وبالتأكيد، رفض العودة. ثمّة عائلات سورية معارضة قد يكون أحد أعضائها موالياً للنظام ومدافعاً شرساً عنه، ولكن ليس إلى درجة أن تكون نجاح العطّار نموذجاً يشكّل ظاهرة، بل بالعكس هي حالة استثناء، واستثناء حادّ. يحمل هذا المشهد المتناقض في أذهان السوريين تفسيراً واحداً أساسياً لا يختلف عن تفسير الأجهزة الأمنية نفسها أو أروقة النظام الأسديّ العليا، هذا التفسير يُلخّص في قضية إثبات "الولاء" الوطني، بحسب تأويل النظام لمفهوم الولاء، إذ يعرف الجميع أنّه ولاء قزّم ليصبح ولاءً لـ"السيد الرئيس"، الذي اختَزَلَ في شخصه الوطن، بل هو في الخطاب الشعبوي والأمني السوري "سيد الوطن"، وعلى السوري دائماً السعي والمُجاهدة للبرهنة على ولائه وإخلاصه. أمّا إذا كان هذا السوريّ مثل نجاح العطّار، فعليه تقديم جرعات هائلة من براهين الولاء والإخلاص، حتّى يتم "فكّ الارتباط" بين جانبها الموالي المُخلص للنظام، وجانبها العائليّ المُتمثّل بأخيها المعارض عصام، وذلك حتّى تحوز الرضى التامّ، ويأمن النظام جانبها(!) فكسبت بذلك براءتها من عصام العطّار، أخيها، الزعيم الإخوانيّ العتيد.
لم يكن المثقف السوريّ موالياً ومعارضاً يشكّك في جدارة نجاح العطّار الأدبية والثقافية والإدارية في تطوير وزارة الثقافة ومنشوراتها، فللأمانة والضمير، كانت تتمتّع باحترام الجميع، خاصّة اليسار السوريّ الذي كان يرى فيها شخصية يرضى عنها الجميع. فهل كان الأسد ونظامه الأمنيّ يتقصّدون إظهارها على هذا النحو، ليخفوا وراءها استبدادهم وعنفهم وأحاديتهم في الفكر والسياسة؟... قد يبدو التساؤل باهتاً وساذجاً، لكن مع وجود صلة القربى الأساسية، بين نجاح وعصام، يبدو السؤال دليلاً على استغراب هذه الحالة في حياة السوريين.
ربما كان مفهوماً وجود شخصية مثل نجاح العطّار في سياق السلطة، من زاوية أنّها تشكّل هدية عظيمة للنظام يستطيع من خلالها "تبييض" وجهه المُستبدّ الشموليّ، خاصّة أنّ العطّار كانت نموذجاً ينال رضى قطاع واسع من المثقفين السوريّين، حتّى بعض أولئك الذين اتخذوا موقف المعارضة للنظام، إذ لم تكن نجاح العطّار شخصية صدامية، ولا مبتذلة حتّى في تعبيرها عن "الولاء" (!) وكنّا بوصفنا سوريين نتفهّم ظاهرتها، بل نقدّر فاعليتها الثقافية المُنفتحة. وهذا لا يعني أنّنا لا نمتعض من تعبيراتها، وزيرةً ومستشارةً ثمّ نائبةً، عن مدائحها الأسدية، التي هي في طبيعة الحال أمر مفروغ منه. عصام العطّار هو الآخر لم يكن معروفاً عنه خطاب العنف والقتل، وبقي حتّى آخر سنواته يدعو السوريين إلى عدم الانجرار وراء ألاعيب النظام الطائفية، ودعا إلى الحفاظ على سلمية الحراك السوري الشعبي. وربما يلتقي في ذلك مع عددٍ من الإسلاميين السوريين البارزين من أمثال علي الطنطاوي، ومصطفى السباعي، وقد نلمس لدى بعضهم، خاصة لدى السباعي، مسحة ليبرالية "متأسلمة"، من نوع ما، على صعيد المجتمع وشؤونه.
ظاهرة نجاح، والتضادّ بينها وبين عصام، هي حالة لا يمكن أن تغيب عن بال النظام الأمني الأسديّ، بل يعتبرونها حالة ينبغي الاقتداء بها
وفي واقعة شخصية، ذات دلالة على هذا الصعيد، حدث أن استدعتني المُخابرات الجوّية في دمشق، من جملة استدعاءات متتالية بسبب انتمائي إلى عائلة فيها ثلاثة إخوة مُعتقَلين من أيام الثمانينيات، وقد أعدم اثنان منهم في تدمر، وجدت نفسي متهماً أمام نائب مدير المخابرات الجوّية، الذي هدّدني بمنعي من السفر، حتّى بين المحافظات السورية وليس خارج سورية فقط، وطرح عليّ بصراحة أن أعمل على تقديم الولاء والوفاء للنظام كما فعلت نجاح العطّار. وذكرها بالاسم (!) مما يدل على أنّ ظاهرة نجاح، والتضادّ بينها وبين عصام، هي حالة لا يمكن أن تغيب عن بال النظام الأمني الأسديّ، بل يعتبرونها حالة ينبغي الاقتداء بها (!)
قد تشكّل نجاح العطّار في النهاية حالة تضاف إلى حالات أخرى في سورية، كان أصحابها فنّانين ينتقدون المخابرات، والفساد المالي والاقتصادي، في أعمالهم المسرحية والدرامية، وكان ذلك ضمن سياقٍ منضبط ومدروسٍ، فيقدّم فائدة كبيرة للنظام في الداخل وفي الخارج. ولكن حين تخرج الأمور عن المسار الموضوع، ينقلب النظام على هؤلاء، ويضيّق عليهم.
يشاء القدر أن يرحل عصام العطّار وأن تبقى أخته مُستمرّة في الحياة السياسة الثقافية السورية في عصري الأسدين؛ الأب والابن، وذلك لتستمر معاناة السؤال القلق بين ولاء للنظامِ وولاء للرفض والحرية، فكأنّ الأخوين عطار يشكّلان حدّين كبيرين يتحرك ضمنهما السوريون كافّة.