هم سوريّون أيضاً
مع بدء عملية "ردع العدوان" التي شنّتها فصائل المعارضة السورية المسلّحة بقيادة هيئة تحرير الشام في 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، سادت مشاعر مختلطة بين الترقّب لمعرفة اختلاف هذه المعركة عن سابقاتها، والفرح لوجود إمكانية إحداث ضغط جدّي على النظام، والقلق من احتمال تضاعف سُلطة "الإسلاميين". ولم يكن أحد يتوقّع، بمن فيهم الفصائل، أن تتطوّر العملية من محض ضغط على النظام ولجم لوحشيّة قصفه على ريف إدلب وحلب، إلى انهيار سريع للنظام وجيشه، إلى أن هرب بشار الأسد فجر يوم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، وسقط نظام الأسد، وانتصرت المعارضة بقيادة الفصائل.
لم يحدُث تغيّر في المشاعر بقدر ما باتت مكثّفة أكثر، مع انتشار مشاعر خوف منطقية ومبرّرة، فسُلطة الفصائل لم تعد مقتصرة على إدلب وحدها، بل باتت هيئة تحرير الشام سُلطة الأمر الواقع في سورية كلها، باستثناء المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي خسرت بعد سقوط النظام مناطق في ريف حلب، علاوة على مدينة دير الزور. وهنا تردَّد السؤال الذي كان مؤجّلاً: هل ستتحوّل سورية إلى أفغانستان أو ليبيا جديدة؟
وتردّدت معه عبارات باتت مترافقة معظم الأحيان مع التبريكات والاحتفالات وكأنّها القدر المحتوم: "إمارة إسلامية"، "فرض الحجاب"، "التطرّف القادم إلى بلد الاعتدال". وبعد أن سلّم رئيس الوزراء السابق، محمد غازي الجلالي، الحكومة إلى هيئة التحرير وحكومة الإنقاذ، بدا وكأنّ جميع هذه المخاوف ستتحقّق أخيراً، وأنّ "علمانية" سورية قد ذهبت أدراج الرياح.
وفي واقع الحال، لم يحدث أيٌّ من تلك السيناريوهات التخويفية. صحيح أنّ أناشيد إسلامية ترافقت مع بثّ التلفزيون الرسميّ، إلى جانب حوادث متفرقة من مضايقات لبعض النساء بشأن عدم ارتداء الحجاب، ورفع علم هيئة التحرير إلى جانب علم الثورة، غير أنّ ردّ فعل قيادة الهيئة كان سريعاً وحاسماً، حين لبّت مباشرةً جميع الطلبات المماثلة، فأوقفت بثّ الأناشيد الإسلامية، وأصدرت قرارات واضحة بشأن عدم التدخّل في اللباس، وتركت علم الثورة وحده في اللقاءات الرسمية. بدا الأمر وكأنّ هناك عقليّتَيْن أو ثلاثاً تحكم الهيئة حالياً، ولكنّ سرعة إصدار القرارات تومئ إلى أنّ القيادة (ممثّلة بالجولاني/ أحمد الشرع) تميل، ولو مؤقتاً، إلى إشاعة جو اعتدال لا يتطابق بالضرورة مع التزامات الهيئة ككل. ليس هدفنا هنا تحليل البيت الداخليّ للهيئة، أو الدعوة إلى إعادة ترتيبه، فتلك مسألةٌ تخصّ الهيئة وقيادتها، غير أن ما يهمّ هنا هو المبادرات السريعة والحقيقية التي تبديها سُلطة الأمر الواقع حيال أصغر طلب من الطلبات، حتى لو تعارضَ مع سياسة الهيئة المعلنة التي كانت ولا تزال مفروضة في إدلب.
سُلطة الفصائل لم تعد مقتصرة على إدلب وحدها، بل باتت هيئة تحرير الشام سُلطة الأمر الواقع في سورية كلها، باستثناء المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية
في المقابل، لم يكن للمعارضة المدنية "العلمانية" حضور قويّ، طوال هذه الفترة. إذ لم تصدُر بيانات حيال معركة "ردع العدوان"، ولا حيال أيّ مسألة تخص الأمور المعيشية الصعبة التي يعيشها السوريّون في الداخل، ولا حتّى حيال تقييمهم الأولي لجهد الهيئة الواضح في تحسين الأمور المعيشية، والتواصل مع القوى الغربية والعربية بشأن استمرارية عمل السفارات الأجنبية. كلّ ما رأيناه هو انتقادات وصلت إلى حدّ مماحكات وابتزاز بالعودة إلى صفوف المعارضة لو لم تعمد الهيئة إلى تشكيل حكومة وطنية تشمل جميع أطياف المعارضة. وبالرغم من إيضاح الهيئة بأن الحكومة الحالية محض حكومة لتسيير الأعمال وتطوير الأمور المعيشية، لم تتغيّر نبرة المعارضة اليسارية والعلمانية التي ما زالت تتعامل مع الهيئة بوصفها البعبع القادم لالتهام الحريات.
ثمة فارق كبير بين التشكّك الصحيّ والبنّاء بالسُّلطة، أيّ سُلطة، والاتهامات المسبقة بـ "سرقة ثورتنا"، وكأنّ القادمين الجدد مجاهدون أجانب وليسوا سوريّين لهم حقوق أيّ سوريّ آخر. قد يبدو الأمر محض بداهة، غير أن التعامل مع هيئة تحرير الشام، ومع الحكومة بأنها حكومة أجانب أو حكومة همجية لمجرّد أنها إسلامية، سيكون له تبعات خطيرة. عزل الحكومة وكأنها ورم لا بدّ من استئصاله لن يؤلّب الفصائل الإسلامية وحدها، ويعيدها إلى خانة رد الفعل التي لم تُنبئ يوماً بخير، بل ستؤلّب معها عموم الناس الذين بدأت مخاوفهم تتبدّد شيئاً فشيئاً مع عودة الاستقرار إلى الأسواق والحياة اليومية.
فارق كبير بين التشكّك الصحيّ والبنّاء بالسُّلطة، أيّ سُلطة، والاتهامات المسبقة بـ "سرقة ثورتنا"، وكأنّ القادمين الجدد مجاهدون أجانب وليسوا سوريّين
سيبدو الأمر وكأنّها محض نكايات رخيصة (وهي ما عليه حقاً أحياناً)، بخاصة أن من يشنّ الهجوم لم يبادر بأيّ فعل وطنيّ أو محليّ باستثناء التخويف والترهيب والابتزاز، بدلاً من أن يبادر إلى عرض تعاونه مع حكومة الأمر الواقع، ومحاورتها في جميع المسائل.
ليس ثمّة إلا مخرج واحد من هذه الاستقطاب الكارثيّ، وهو نزول المعارضة اليسارية والعلمانية من برج شعارات الخمسينيات، والنزول إلى الشارع ومخاطبة الناس، كما تفعل حكومة الهيئة. الشوارع خالية الآن إلا من أجهزة حكومة الهيئة، ومن مبادرات محلية شبابية صغيرة تُبشّر بأنّ ثمة من لا يزال يؤمن بأنّ هذه البلاد بلاده، وأنها تستحق العمل من أجلها. العمل لا التنظير الأجوف الذي لا يستهدف إلا التخويف، بخاصة لدى شرائح شعبية، ما زالت تتلمّس طريقها بعد انهيار النظام.
هم سوريّون أيضاً. هذا ما يجدُر بالجميع أن يدركه كي تمضي الشهور الثلاثة التي وضعتها الهيئة مهلة لحكومة الإنقاذ، وصولاً إلى مؤتمر وطنيّ يشمل الجميع. سوريّون لا بد من انتقادهم ومواجهتهم بكل الأخطاء أو الملاحظات، لا لأنّهم إسلاميّون بل لأنّهم السُّلطة التي تحكم البلاد. لكلٍّ منّا مخاوفه وملاحظاته وانحيازاته، ولنا تساؤلاتنا بخاصة ما يرتبط بالقرارات ذات المدى الطويل التي تصدرها الحكومة وكأنها ستبقى لسنوات لا لأشهر، وعدم مبادرتها هي أيضاً للتواصل مع باقي الأطراف في البلاد، وتعاملها مع الاقتصاد بلا أيّ خطة واضحة. ولكنّ الوقت الآن ليس وقت مماحكات بل وقت بناء للبلاد التي دمّر النظام فيها كلّ شيء، وبات علينا إعادة بنائها من جديد.