هل ينهار الاستقرار الهشّ في العراق؟
لم تكن الأيام القليلة الماضية في العراق سوى انعكاس لواقع الصراع الذي يشهده البلد منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التي جرت في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأفضت إلى مزيد من الانقسام والتشرذم، وإن كانا هذه المرّة انقساماً وتشرذماً بين النوع الواحد، أو المكوّن الواحد إن صحّ التعبير، فبعدما أكدت تلك النتائج فوز التيار الصدري بأكثر من 70 مقعداً في البرلمان وخسارة منافسيه الشيعة ممن يوصفون بأنهم من المقرّبين لإيران، بدأت الأمور تتجه نحو تصعيدٍ ربما هو آخر ما يحتاجه العراق في ظرف دقيق وحساس يعيشه وتعيشه المنطقة من حوله، وتأثيرات ذلك على واقع البلاد التي تعاني من مشكلات أقل ما يقال عنها إنّها باتت تتعلق بوجود العراق.
عديد من العمليات المسلحة شهدتها بغداد ومدن عراقية أخرى، لا متهم من ورائها سوى القوى الموالية لإيران، فليس هناك "داعش" هذه المرّة، لتلقى على عاتقه مثل هذه التهم والعمليات المسلحة، وليس هناك "القاعدة". هناك مليشيات منضوية تحت لواء الحشد الشعبي، وهي تتبع لقوى الإطار التنسيقي التي خسرت في الانتخابات ولم تحقق ما كانت ترجوه، بمعنى أنّ العمليات المسلحة والتفجيرات والهجمات بالصواريخ على مقرّ السفارة الأميركية في بغداد مسلحة بصبغة سياسية، تسعى منها تلك الجهات التي تقوم بها إلى إيصال رسائل محدّدة وواضحة.
تسعى القوى الشيعية الخاسرة في الانتخابات إلى تأكيد أنّها قادرة على أن تفجّر الوضع الأمني الهشّ، وتهدد استقرار العراق برمته، في حال لم تحصل على ما تريد من كعكة الحكومة الجديدة التي تتشكل وتطبخ، على ما يبدو، بطريقةٍ تختلف عن سابقاتها، وهو ما تخشاه تلك القوى التي باتت تؤمن بأن هناك مؤامرة تستهدفها وتستهدف وجودها. بالتالي، لم يبقَ أمامها سوى أن تُصعد وأن ترفع من مستوى التهديدات التي وصلت إلى العلن من خلال تصريحات شخصيات سياسية وحزبية محسوبة على هذا التيار بأنّ الوضع الأمني في العراق قد ينهار في حال تم استبعاد قوى الإطار التنسيقي.
تبدو القوى الشيعية الرافضة نتائج الانتخابات، فعلياً، متوجسة جداً من خطوات الصدر الرامية إلى التحالف مع القوى السنية والكردية بعيدا عنها
تبدو القوى الشيعية الرافضة نتائج الانتخابات، فعلياً، متوجسة جداً من خطوات الصدر الرامية إلى التحالف مع القوى السنية والكردية بعيدا عنها، الصدر الذي جدّد أكثر من مرة أنه يسعى إلى تشكيل حكومة أغلبية سياسية لا حكومة توافقية. وعلى الرغم أن الخط الفاصل بين التوافقي والسياسي في عراق ما بعد 2003 وهمي، إلا أنه الصدر يريد حكومةً تنجح في انتشال العملية السياسية من واقع قد يؤدّي بالجميع إلى ما لا يحمد عقباه.
حاولت إيران العارفة ببواطن الأمور، وما يمكن أن تؤدي إليه الخلافات الشيعية الشيعية في العراق من اقتتال دموي، تكون هي قبل غيرها الخاسر الأكبر فيه، تقريب وجهات النظر بين الإخوة الأعداء، حيث تفيد مصادر عراقية مطلعة بأنّ وفداً من التيار الصدري أدّى، برفقة وفد من الإطار التنسيقي الرافض نتائج الانتخابات؛ زيارة إلى طهران مطلع الأسبوع الجاري، كان من نتائجها الأولية أنّ أطرافاً داخل الإطار التنسيقي أعلنت رغبتها بالتحالف مع الكتلة الصدري لتشكيل الكتلة الأكبر، وهو تحالف يستبعد كلّاً من رئيس الوزراء الأسبق وأمين عام حزب الدعوة، نوري المالكي، وزعيم مليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، منه. ويبدو أنّ الوساطة الإيرانية نجحت في إحداث حراك داخل البيت الشيعي المنقسم، تمثّل بظهور كتلة داخل الإطار التنسيقي تسعى إلى التحالف مع الصدر بعيداً عن المالكي والخزعلي، مع ضماناتٍ قيل إنّ الصدر أعطاها للوسيط الإيراني، تتمثل بعدم ملاحقة المالكي والخزعلي، ضماناتٍ لا يبدو أنّها كانت كافية او مقنعة لكليهما، فقد سعى المالكي إلى تحصين نفسه حزبياً من خلال إعادة انتخابه أميناً عاماً لحزب الدعوة، أحد أعرق الأحزاب الشيعية وأهمها في العراق. انتخاب يعتقد المالكي أنّه قد يضيّق الخيارات أمام الصدر في حال سعى إلى ملاحقته إن تمكّن طبعاً من تشكيل حكومته الموعودة التي يسعى إليها، لتبقى كلّ الخيارات مفتوحة على ما يمكن أن تؤول إليه مباحثات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
تراقب أميركا الوضع السياسي في العراق عن كثب، وتدرك جيداً أنّ لدى هذه القوى المسلحة القدرة على إرباك المشهد
وأمام هذا المشهد المتشابك والمعقد، تبدو قوى شيعية مسلحة غير راضيةٍ عما يمكن أن تخرج به المباحثات، سواء التي حصلت في إيران أو الجارية في بغداد، هذه القوى باتت اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تشعر بأنّ فرص وجودها وبقائها على قيد السلاح تضيق، ما دفعها إلى مزيد من العمليات المسلحة التي تسعى من خلالها إلى إرباك المشهد من جهة، وإلى فرض شروطها من جهة أخرى، وهو ما قد يدفع إلى مزيد من التأزيم الأمني خلال أيام.
تراقب أميركا الوضع السياسي في العراق عن كثب، وتدرك جيداً أنّ لدى هذه القوى المسلحة القدرة على إرباك المشهد، وبالتالي فإنّ أيّ تدخل مسلح منها (واشنطن) قد يسهم في إرباك المُربَك، وتفتيت ما تبقى من شكل العملية السياسية التي باتت أميركا تدرك، أكثر من أيّ وقت مضى، أنّها كارثية وغير مجدية في إخراج العراق من عنق الزجاجة التي دخل فيها.
في المجمل، قد تشهد الأيام المقبلة مزيداً من التصعيد على المستوى الأمني في العراق، أو قد تُحدث الانفراجة المنتظرة في طريق تشكيل الحكومة، لكن، حتى هذه الانفراجة قد لا تطول إذا ما بقيت القوى المليشياوية المسلحة المدعومة إيرانياً قوية، ولديها الغطاء الإقليمي الذي يبقيها قادرة على إحداث الفرق متى ما أراد داعمها الإيراني.